حاشية على "مملكة الحجاز"

حاشية على "مملكة الحجاز"

12 مايو 2020
+ الخط -
ليست صحيحةً العبارة التي راجت في كتاباتٍ متعجّلةٍ إن التاريخ يكتبه المنتصرون، فإذا كان لهؤلاء أن يكتبوا ما يشاؤون، فإن في وسع غيرهم أن يحرثوا في التاريخ، ويجدوا فيه ما يعتبرونه انتصارا للحقيقة، بحسب ما تأتي به شواهدُهم على صحتها. وقد قال المخرج السوري، حاتم علي، مرّة، إننا نشاهد اليوم أحداثا على الهواء مباشرة على شاشات التلفزات، ولكننا نختلف، بحسب منظور كل منا، في تأويلها وتفسيرها، فما بالك بشأن مروياتٍ وصلت إلينا في كتب مؤرّخين قدامى. وليست خرائطُ الحاضر ووقائعُه وحساباتُ الأطراف المشاركة في صناعة حوادثه وحدَها موضوع المنازلات والمعارك والخلافات، بل الماضي وكتابته أيضا، بوصفه تاريخا. وليس بلا دلالةٍ أن يُخفق اللبنانيون، منذ انتهاء الحرب الأهلية (هل انتهت حقا؟) في الاتفاق على توحيد الكتاب في المناهج الدراسية للتاريخ والتربية الوطنية، على الرغم من تشكيل لجانٍ عديدةٍ مختصةٍ في هذا الشأن، وقد طولبوا بهذا الأمر في نصٍ تضمنّه اتفاق الطائف.
تأتي إلى البال هذه البديهيات بمناسبة بث تلفزيون العربي، قبل أيام، فيلم "مملكة الحجاز"، من إنتاجه وإخراج صهيب أبو دولة، عن المملكة التي تزعّمها الشريف حسين بن علي، واستمرّت ما بين 1916 و1925، وضمّت مكّة المكرمة والمدينة المنورة وجدة والطائف، وانتهت مع غزو قوات عبد العزيز بن عبد الرحمن (ابن سعود)، وتوسّعها في الجزيرة، انطلاقا من نجد، لتقوم تاليا الدولة السعودية الثالثة، أي المملكة العربية السعودية الراهنة، في 1932. وانتهى حكم الأشراف في مكّة بعد حروبٍ ومجازر وتحالفاتٍ قبلية، لمّا اعتمدت تلك القوات التي تشكلت من البوادي على التغلب والاحتراب بالسيف والعصبية التي توسّلت الدين بصيغته الوهابية المتشدّدة. ومن انطباعاتٍ ينتهي إليها مُشاهد الفيلم الموفق في مادّته الوثائقية، وفي إيقاعه العام، التعاطف مع الهاشميين والشعور بالنفور مما سلكه آل سعود في سبيل إقامة مملكتهم، حيث لم تتورّع قوات "إخوان من أطاع الله" (جيش ابن سعود) في ارتكاب أفعال متوحشّة، منها المجزرة الشنيعة في الطائف، في العام 1924، لمّا قطعوا فيها حناجر عشرات النساء والأطفال، وقتلوا عشراتٍ لجأوا إلى مسجد، ونهبوا المدينة. وكتب دارسون ثُقاتٌ إن شعار جيوش أولئك "الإخوان" في غزوات التوسّع في المدن والحواضر والبوادي كان "من عادى آل سعود يعادي الله، فخذ عدو الله لعهد الله واغدر به".
ولكن، ليست المملكة التي أقامها أولئك وحدها التي سلكت العنف، والوحشية أيضا، في سبيل أن تنشأ على أنقاض سابقيها، فدولٌ وإمبراطورياتٌ عديدةٌ، أقامتها أممٌ وشعوب، في الغرب والشرق، انتهجت هذا. ولذلك يجوز أن يُحسَب الذي انبنت عليه العربية السعودية الراهنة لمّا صارت مملكةً، موحّدةً بالسيف بفعل جيوش المؤسس عبد العزيز، واحدا من طبائع التاريخ، وبديهياته ربما. وطبيعيٌّ أن التأشير إلى هذا الأمر ليس من شواغل فيلم "مملكة الحجاز"، لا لشيءٍ إلا لأن العمل الوثائقي التلفزيوني ليس مُطالبا بالشرح والتأويل والتفسير، إلا عند مقتضى الضرورة، وبحدودٍ تتوظف لإسناد الرواية عن هذه الواقعة أو تلك. وإذا كان هذا الفيلم قد أحدث التعاطف مع الهاشميين والنفور من آل سعود، إلا أنه، في الوقت نفسه، بَسَط أكثر من شاهد، ونقل عن أكثر من متحدّث عارف وباحث، ما دلّ على أن الإنكليز، القوة السياسية والعسكرية الأولى في المنطقة في تلك الحقبة المضطربة، كان لهم الدور الأهم في إضعاف شوكة الشريف الحسين، لمّا خانوا عهودا معه، ومالوا إلى ابن سعود الذي كانت الوقائع بين الرمال ترجّح انتصاره وقوته، وإنْ بدعمٍ تسليحيٍّ من الإنكليز أنفسهم لا ريب.
كيف نطلّ على حوادث ذلك الزمن الذي غابت فيه مملكةٌ قصيرة العمر في الحجاز، اتصفت مدنها بعلائم التحضّر وبعض الرقي، مع كثير من الفطرة والبداوة، وقامت مملكةٌ بالسيف والتشدّد الديني، وبالقتل، ثم اغتنت لاحقا، وأصابتها الحداثة في مرافق العمران وبعض الإدارة وحسب؟ بأي عيونٍ شاهدنا فيلم تلفزيون العربي؟ الأرجح أنها عيونُ الراهن أطلّت على البعيد الذي صار في رمال الجزيرة وخرائطها، لتسأل عمّا إذا ما زالت للتاريخ دواليبُه التي تدور، وهي ترى العقلَ العميقَ نفسه الذي أقام مملكة ابن سعود ما زال حاكما ومتحكّما، وإنْ ينطق محمد بن سلمان بما ينطق.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.