معضلة ثوسايديدس

معضلة ثوسايديدس

08 ابريل 2020
+ الخط -
بمناسبة انشغال العالم بوباء كورونا وتداعياته المختلفة، يفرض السؤال المتعلق بصعود الصين وتنامي دورها العالمي نفسَه بقوة على ساحة النقاش، ويطرحه بعضهم استنادا إلى ما اعتبروه "كفاءتها" في احتواء الجائحة، مقارنة بالقوى الأولى في العالم (الولايات المتحدة)، و"مسارعتها" إلى مساعدة الآخرين حتى ولو بكمّامات مستعملة! كما حصل مع هولندا، بعكس أميركا التي "تسطو" على شحنات الآخرين من الكمّامات والمعدّات الطبية. وفي إطار الحديث عن احتدام التنافس بين الاقتصادين الأول والثاني (على قيادة العالم) يتم استعراض سيناريوهات مختلفة وطرح أسئلة مهمة، مثل: هل يكون صعود الصين سلميا، أم يأخذ منحىً عنيفا في سياق مواجهة محتملة مع القوة الحاكمة في النظام الدولي؟
اهتمت جامعة هارفارد الأميركية مثلنا بمحاولة الإجابة عن هذا السؤال، إنما فعلته بعيدا عن التحيزات الأيديولوجية والمواقف السياسية، فأنشأت مشروعا بحثيًا أطلقت عليه اسم "معضلة ثوسايديدس"، بإشراف الأستاذ في الجامعة، غراهام أليسون، الذي اشتهر بسبب كتابه "Essence of Decision"، وتناول فيه بالدرس أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962، وما زال يعد من أفضل ما كتب في تحليل عملية صنع القرار في السياسة الخارجية في أوقات الأزمات، على الرغم من أنه صدر قبل نصف قرن (1971). نتج عن مشروع جامعة هارفرد كتاب نشره أليسون عام 2017 تحت عنوان "حتمية الحرب: هل تستطيع أميركا والصين تجنب معضلة ثوسايديدس". وثوسايديدس هذا مؤرّخ وقائد عسكري يوناني (أثيني)، اشتهر بكتابه الذي أرّخ فيه "الحروب البلبونيزية" التي وقعت في القرن الخامس قبل الميلاد بين أثينا وإسبارطة، وكان سببها، بحسب ثوسايديدس، الخوف الذي بثّه صعود أثينا في قلب القادة الإسبارطيين.
درس أليسون، ورفاقه، في هذا المشروع، تاريخ النظام الدولي الحديث منذ أواخر القرن الخامس عشر، حيث انطلقت صراعات القوى الأوروبية للسيادة على العالم مع الكشوف الجغرافية، وصولا إلى الوقت الراهن، وحدّد 16 حالةٍ تعاقب فيها حلول قوة صاعدة محل قوة حاكمة في النظام الدولي، وقعت الحرب في 12 منها. أما الحالات الأربع التي حلّت فيها قوة صاعدة محل قوة حاكمة من دون حصول مواجهة عسكرية فكانت صعود إسبانيا محل البرتغال قوة استعمارية أوروبية أولى في العالم، اعتبارا من نهاية القرن الـ15، وصعود الولايات المتحدة محل بريطانيا مطلع القرن العشرين، وانفراد الولايات المتحدة بقيادة العالم بعد انهيار الاتحاد السوفييتي أواخر القرن نفسه، وصعود ألمانيا قوةً مركزية أوروبية بعد الوحدة الألمانية عام 1990، في ظل مخاوف بريطانيا وفرنسا من احتمال عودة محاولات الهيمنة الألمانية على القارّة.
ويعود امتناع الحرب في الحالات الأربع المذكورة إلى أسباب مختلفة. في الأولى، امتنعت الحرب نتيجة اقتناع الطرفين المتعبين من حروبٍ سابقة بعدم جدوى التورّط في حرب جديدة، وتوسّط الكنيسة الكاثوليكية التي كان لها دالّة كبرى على كل من إسبانيا والبرتغال في إبرام اتفاق تم وفقه تقسيم المستعمرات المكتشفة حديثا بين الطرفين، وفق خط الطول 46، شرقا إلى البرتغال وغربا إلى إسبانيا. في الحالة الثانية، امتنعت الحرب نتيجة الفرق الكبير في القوة بين الولايات المتحدة وبريطانيا، فاعترفت الأخيرة بالسيادة الأميركية على القسم الغربي من الكرة الأرضية، واختارت فوق ذلك التحالف معها لمواجهة تحدّيات أكثر خطورةً برزت من قوى أوروبية أقرب جغرافيا إليها (ألمانيا). في الحالة الثالثة، امتنعت الحرب بسبب امتلاك كل من موسكو وواشنطن السلاح النووي وقدرة كل طرفٍ على تدمير الآخر تدميرا كليا وشاملا. في الحالة الأخيرة، تمكّنت ألمانيا من ملء الفراغ الذي تسبب به انهيار الاتحاد السوفييتي، خصوصا في شرق أوروبا، عبر توسعة الاتحاد الأوروبي، واعتماد أدوات مالية واقتصادية بدل العسكرية في بسط هيمنتها على القارّة الأوروبية. وهناك طبعا من يستدعي لتفسير هذه الحالة نظرية السلام الديمقراطي، حيث تمتنع الحرب بين الديمقراطيات.
الآن، تجد الصين وأميركا نفسيهما أمام معضلة ثوسايديدس، الأولى كقوة صاعدة والثانية كقوة حاكمة. وفي حين أن أسباب التناقض لا تفتأ تزداد بينهما، من غير الممكن القول، بعيدا عن الأحكام المبتسرة والإجابات المتعجلة، ما إذا كنا بصدد الحالة الـ13 أم الحالة الـ5 في مشروع هارفارد البحثي.