هل تهدأ النزاعات؟

هل تهدأ النزاعات؟

07 ابريل 2020
+ الخط -
يقول المنطق إن غزو فيروس كورونا جميع بقاع الأرض، وحالة الاستنفار التي فرضها على مختلف المجتمعات، لا بد أن يصرفا الأطراف المتخاصمة عن الحروب والمنازعات، إلى حين تجاوز هذه الأزمة وانتهاء الجائحة التي تتهدّد المجتمعات البشرية من دون تمييز. وكما تعطّلت أهم مناحي الحياة على مستوى العالم، فإن المَدافع لا بد أن تتعطّل إلى أمد غير معلوم، فمن لديه القدرة على خوض الصراعات وكورونا قد أوقفت الحياة؟
ويقول المنطق أيضاً إنه لا أحد، في العالم، دولة أو نظاماً سياسياً أو فرداً حاكماً، يملك ترف التفكير في المشاريع الجيوسياسية والمسائل السلطوية، في ظل انكشاف محدودية قدرة جميع الفاعلين الدوليين على مواجهة الجائحة التي، حتى اللحظة، خلخلت بنيان العولمة، وأسقطت الأمان الزائف الذي عاشت البشرية في ظله، منذ ما يزيد على قرن، والمستند إلى شعار أن التقدّم العلمي، والطبي منه، قد قضى نهائياً على الأوبئة الجماعية، ولم يعد لها وجود إلا في كتب التاريخ، كالطاعون والكوليرا والإنفلونزات بمختلف أنواعها.
لكن، ما هو أهم من ذلك، والذي يجعل من مسألة وقف النزاعات قضيةً بدهية، لا تحتاج حتى لنقاش، وتمنيات من أعلى المستويات الدولية، كما فعل الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، في دعوته إلى وقف فوري لإطلاق النار في جميع أنحاء العالم، والتفرّغ للحرب 
ضد وباء كورونا العالمي، أن البشر الذين أنهكتهم الحروب، في مناطق النزاعات، يحتاجون لترتيب أمورهم لمواجهة الحرب البيئية الطارئة، كذلك فإن الأنظمة والحكومات لديها استحقاقات داهمة، من نوع تأمين الدواء والغذاء والماء لشعوبها، لتوفير الحد الأدنى من إمكانية تجاوز الأزمة بأقل قدرٍ من الخسائر، وإن كل طاقاتها ستتوجه بهذا الاتجاه، وليس لديها طاقاتٌ فائضةٌ تصرفها في مجالاتٍ أخرى، إذا كانت الدول المتقدّمة، والتي لديها إمكانات هائلة تستنجد العون في مواجهة الأزمة، فما بالك بدولٍ أنهكتها النزاعات ودمّرت أرصدتها وطاقاتها؟ ثم من أين ستأتي الأطراف المتصارعة بمقاتلين، لديهم طاقة وحماسة للقتال، فيما الوباء يهدّد عائلاتهم وذويهم؟!
وحتى بمنطق الحسابات السياسية البسيطة، يفترض أن تظهر جميع أطراف النزاعات ميلها إلى التهدئة والسلم، من منطلق استثمار الأزمة للحصول على فوائد سياسية من مجتمعاتها وخصومها على السواء، والظهور بمظهر الحسّ بالمسؤولية تجاه أزمة أرعبت المجتمعات البشرية وأربكت حياتها، وهي بحاجةٍ للإحساس بالأمان والدعم النفسي لعبور هذه الأزمة.
ولكن هذا المنطق يبدو نظرياً، وحتى ساذجاً، بالنظر إلى الوقائع الجارية في ساحات النزاعات، أقله في منطقة الشرق الأوسط. ففي ليبيا انهارت الهدنة التي سُمِّيَت هدنة إنسانية، وعاودت الأطراف لعبة الحرب على جثة بلدٍ مزقتها حروب الآخرين، وعاد الداعمون للحرب إلى نشاطهم الاعتيادي، بدعم أطراف الصراع، وكأن لا وجود لأزمةٍ اسمها كورونا؟ وفي سورية، تتجهز الجبهات لحربٍ جديدة في إدلب، وترصد التقارير الدولية تحشيد آلاف من عناصر المليشيات الإيرانية استعداداً لحرب قادمة! وكذلك في اليمن تسير الأمور إلى مواجهة حتمية بين أطراف الصراع.
لا يوجد تفسير منطقي لذلك، سوى أنه، في بلاد الأزمات، لا صوت يعلو على صوت المدافع، ولا تأجيل لخطط عسكرية، في هذه البلاد التي أصبحت الحرب مقدّسة لذاتها، ولم يعد ثمّة قيمة لشيء آخر، خصوصاً إذا كانت النزاعات تتغذّى من قنوات الأحلام السلطوية والجيوسياسية، حيث تقبع الشعوب وأوجاعها في ذيل قائمة أولويات اللاعبين الذين يقدّرون أن أي تأجيل لأجندة المعارك سينعكس سلباً على مشاريعهم، ويكسر المسار التصاعدي لإنجازاتهم الحربية.
وفق ذلك، تجد هذه الأطراف أنها أمام فرصة ثمينة، لا يجب أن يفوّتها العقل السياسي المحنك، ذلك أن أزمة كورونا ستخفّف، بدرجة كبيرة، من اهتمام وسائل الإعلام الدولية، في النزاعات العالمية، كذلك إن الدبلوماسية الدولية لا وقت لديها لمتابعة ما يحصل في ساحات نزاعٍ أرهقتها متابعتها على مدار السنوات السابقة، وهنا مكمن الخطورة، إذ من غير المستبعد لجوء أطراف 
النزاعات إلى استخدام أساليب وحشية لتحقيق النصر على الخصم، في ظل انشغال العالم بتعداد ضحايا الأزمة، وانهماك الفاعلين الدوليين في معالجة أزماتهم الداخلية التي أنتجها تداعيات كورونا، التي لا يبدو وجود أفق واضح لانتهاء تداعياتها، وغير معلومٍ حجم الضرر الذي ستخلفه على البشرية.
من هنا، على المسؤولين الدوليين، بحجم الأمين العام للأمم المتحدة، عدم الاكتفاء بالأمنيات التي لن تؤثر كثيراً بماكينة حرب المشاريع السلطوية والجيوسياسية، بل هناك حاجةٌ ملحّة لاستصدار قرار من مجلس الأمن ملزم، بمنع شن الحروب ووقف كل العمليات العسكرية، واعتبار أن أي هجوم سيعتبر نوعاً من جرائم الحرب في ظل هذه الظروف، من دون الحاجة للبحث عن أدلة ومماحكات.
ويجب إجبار روسيا على الموافقة على قرارٍ كهذا والخضوع له، في وقتٍ تحاول بيع أوروبا مواقف إنسانية عبر ما تقدّمه من مساعدات طبية إلى إيطاليا المنكوبة بوباء كورونا، من دون انتظار عوائد سياسية، على ما يزعم إعلامها وساستها، وهذا تصرّف يجب الحذر منه، إذ ليس خافياً مساعي روسيا في استقطاب إيطاليا خارج الاتحاد الأوروبي، والظهور بمظهر الطرف الدولي المسؤول الذي لن تؤثر في صورته حربٌ يشنها على "المتطرّفين" في سورية أو ليبيا، فيما المنطق يستدعي أن تظهر روسيا شيئاً من إنسانيتها المزعومة تجاه ملايين المشرّدين على الحدود التركية الذين لا يملكون أبسط وسائل الوقاية من كورونا، الماء والصابون.
5E9985E5-435D-4BA4-BDDE-77DB47580149
غازي دحمان

مواليد 1965 درعا. كتب في عدة صحف عربية. نشر دراسات في مجلة شؤون عربية، وله كتابان: القدس في القرارات الدولية، و"العلاقات العربية – الإفريقية".