في مسألة الصين ويوسّا

في مسألة الصين ويوسّا

07 ابريل 2020

روايات يوسّا على موقع "جيندونغ" لبيع الكتب بالصين 6/4/2020

+ الخط -
أمّا وأن الحكم في الصين مستبدٌّ وشموليٌّ وقمعي، فذلك لا جدال فيه، ولكنه ليس غبياً أو أحمق، ولو كان كذلك لما صارت الصين بلد الإنجاز الاقتصادي المذهل، والتطوّر العلمي (والطبي) الكبير، والطموحات العالمية الكبرى تجاريا واستثماريا. ولكن ذاع، قبل أيام، أن السلطات الصينية أوقفت، أخيرا، بيع روايات الكاتب البيروفي (العالمي بداهةً)، ماريو فارغاس يوسّا (83 عاما)، في منافذ الإنترنت، وحجبت اسمَه من مواقع البحث في الشبكة العنكبوتية، بعد نشره، في مقاله نصف الشهري في صحيفة الباييس الإسبانية، أن دكتاتورية النظام في الصين مسؤولة عن انتشار وباء كورونا في العالم، وهو مقالٌ ردّت عليه سفارة الصين في البيرو، في بيانٍ اشتمل، للحق، على كثيرٍ من أوجه المحاجَجة القوية (اطّلع صاحب هذه السطور على نصّه)، وإنْ رمى اتهامات الكاتب الشهير بالسخافة. وليس من نعتٍ آخر لفعل المنع، إن صحّ، سوى أنه دليلٌ على حماقةٍ وغباء، فضلا عن قلّة عقلٍ فادحةٍ في الحكم في بلاد التنّين، لا تستقيم مع الإتقان المُعجز الذي يتّصف به أداء الدماغ الصيني في التخطيط والإدارة والتنفيذ في غير شأن.
ولمّا كان الأمر هكذا، فإن الخبر استوجب التثبّت منه، سيما وقد اغتبط به موقعٌ إلكتروني مصري تافه، واختار عنوان "الصين تشعل الحرب ضد الكاتب العالمي يوسّا بسبب كورونا". تحرص على هذا التثبت، وفي بالك أن الدكتاتوريات يحدُث أن تُقدم على سخافةٍ من هذا الصنف، وحدث أن سلطات الصين منعت بيع رواياتٍ وكتبٍ معلومة، ولكن النقولات الكثيرة في غير وسيط صحافي عربي في شأن "منع" كتب يوسّا في الصين اعتمدت على خبرٍ غير واضحٍ في نسبتِه إلى أحد، وإنْ أفيد، أحيانا، بأن "الباييس" هي التي كتبت ذلك. وهنا لا بأس من بعض سوء الظن، فالصحيفة الإسبانية تستثمر في اسم صاحب جائزة نوبل للآداب، فتُواظب على نشر مقالاته (غير المقروءة كثيرا)، وهذه في أغلبها بين رديئةٍ وضعيفةٍ وعاديةٍ ومرتجلة، وفي المقال موضوع الغضبة الصينية بعضٌ من هذه النعوت (طالَعه صاحب هذا التعليق كاملا)، شرّق وغرّب في معلوماتٍ ذائعة (عنوانه .. العودة إلى القرون الوسطى)، وقد نُشرت في الصحافة العربية مقالاتٌ انتقدت الصين أرفع منه.
بإيجاز، الخبر غير صحيح إطلاقا، لم يتم شيءٌ في الصين بشأن روايات صاحب "الكلاب والمدينة"، فما زالت تباع في منصّات الإنترنت المختصة، ولم يجر عليها أي حظرٍ، وليس صحيحا أنها نفدَت هناك، وأن الصينيين تقاطروا لشرائها بعد المقال (!). وفي وسع من له أصدقاء يعرفون الصينية التيقن من هذا الأمر (كما فعل صاحب هذه السطور). وعجيبٌ حقا أن هذا الكاتب، الشديد اليمينيّة، والمتطرّف في رفعه لواء الليبرالية التاتشرية (شديد الإعجاب بريغان أيضا!)، مقروءٌ جيدا في الصين، بل إن نجله يقول، أخيرا، إن استقبالا طيبا حظي به والدُه في غير زيارةٍ قام بها إلى هناك. وبشأن نشر سفير الصين في البيرو بيانا مفصّلا ضد خمسة أسطر (فقط) في مقالٍ غير قصير في صحيفة، أخطأ في هذا أو لم يخطئ، صحّ كلامه عن احترام بلاده حرية التعبير أم لم يصحّ، فأمرٌ يخصّه. أما ما قد يخصّنا بعض الشيء، نحن في الإعلام العربي، فهو أن نعرف أن ماريو فارغاس يوسّا (وهو روائي شائق حقا) ليس حجّةً في الكلام عن الصين، ولا عن غيرها، بل لا أجازف في زعمي هنا إن من غير المستبعد أن يكتب مقالا، في وقت لاحق، يمتدح جهود الصين في الحدّ من انتشار كورونا، فالرجل مشهورٌ بتقلّب آرائه وتغيّرها (دعك من انتقاله من اليسار المتطرّف في شبابه إلى شغفه بالليبرالية الغربية المتطرّفة، فهذا ليس عيبا ربما)، وإنْ يحسُن امتداح مناهضته الدكتاتوريات، ودفاعه عن الحرّيات وحقوق الإنسان. فعلها فينا غير مرّة، ظل مدّاحا لإسرائيل، وصديقا لها، وارتضى منها جائزة القدس، ودافع عنها مرّات، ثم حدث أن أعلن خجله من صداقته لها، ذات عدوانٍ على غزة، (كتب عن الفلسطينيين كتابا أزعج الإسرائيليين، بعد زيارته لهم)، إلا أنه أخيرا يكتب عنها بلدا محبوبا ومحترما. ناصر الحرب على العراق لإسقاط نظام صدّام حسين، ثم كتب إنها كانت غير شرعية. أما هجومه الدائم على كاسترو بعد صلةٍ طيبةٍ معه، وكذا ضربُه صديقه السابق غارسيا ماركيز بلكمة، فذلكما وغيرهما من وقائع عديدة في أرشيف بعيد، وأرشيفه الأقرب لا يدلّ على كاتبٍ متزن في أفكارِه وتناقضاته وتأملاته.. ولكنه يبقى روائيا كبيرا.

دلالات

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.