فوطة ألبير كامو وإعادة النظر

فوطة ألبير كامو وإعادة النظر

06 ابريل 2020
+ الخط -
يتم كثيراً، منذ أسابيع، بسبب كورونا، تداول رواية "الطاعون" لألبير كامو، بوصفها متخيلا استشرافيا بليغاً لما يعيشه العالم الآن مع وباء كورونا. والرواية عن طاعون يصيب مدينة وهران الجزائرية، بسبب انتشار الفئران، والتي جاءت بمثابة ثيمة رمزية لانتشار الفساد في مناحي الحياة المختلفة.
ولكن ثمّة روايةٌ لا تقل أهمية من هذه الناحية، وهي "الغريب" التي دبّجتها عبقرية كامو في العشرينيات من عمره. وهي في عمقها تحتفي بالعزلة، شبيهة بالتي نعيشها الآن مع كورونا؛ فبدايةً من عزلة الأم في مشفى العجزة، وعزلة البطل في شقته في العمارة التي لا يسكن فيها سوى أناس متحدين معزولين، يتفاعل معهم البطل بصورةٍ متقطعة، يعيش أحدهم مع كلب أجرب، اشتراه ليكون تعويضاً عن زوجته بعد انفصالهما، بحيث يمكنه السيطرة عليه والصراخ في وجهه، ولكن الكلب يعاند ويهرب في النهاية، في غفلةٍ من صاحبه. ومع الوقت، تتعمق عزلة البطل ميرسولت، ففي النصف الثاني من الرواية، سيعيش في سجن انفرادي، بعد قتله شاباً عربياً. في هذه اللحظات، يبرع ألبير كامو في صياغة نشيد عالي القيمة لمفهوم العزلة، يصل إلى حدود الحكمة والتجربة العميقة في الحياة، على الرغم من أن كاتب الرواية (إبّان كتابتها) لم يصل إلى العقد الثالث من عمره.
وقبل ذلك، في إحدى المشاهد الأولى من الرواية، ثمّة لقطةٌ مهمة، قد لا يلتفت إليها، ولكن الآن بسبب انتشار وباء كورونا، ليس لأي قارئ أن يتجاوزها، وهنا عبقرية الأدب وخلوده، خصوصا إذا كان رصينا كهذه الرواية العالمية الخالدة، حيث يرفع بطل الرواية، ميرسولت، شكوى إلى مدير الشركة التي يعمل فيها، تتعلق بفوطةٍ تتداول عليها أيادي الموظفين قبل وجبات الغداء، فيرد عليه المدير إن هذا "أمر ليس ذا شأن". لن يلتفت القارئ إلى هذه الإشارة، أو سيمر عليها مرورا عارضا. ولكن ماذا لو قرأ الرواية في هذه الأيام، كما فعلتُ، لما أعدت قراءتها أخيرا؟ فبسبب كورونا، ستكون هذه اللقطة مهمة جدا، بل وأساسية. وليست فضلةً زائدةً، أو تفصيلا لا داعي له، أو أمرا لا يستحق حتى مجرّد الشكوى كما ظن مدير الشركة؟
تدعونا هذه اللقطة العابرة، فوطة ألبير كامو، بسبب كورونا، إلى التفكير في أمور كثيرة كنا لا نلتفت إليها، ونظنّها "ليست ذات أهمية"، فقد حمل هذا الفيروس الخفي معه حقيبة مهمة من الدروس. لنكون بالتالي أمام فيروس اجتماعي في أساسه، يخلخل كل أنماط التفكير التي كانت تستحوذ على حياتنا. من أول هذه الدروس أن الفيروس يعقد صداقة وطيدة مع الجهل واللاثقافة. وبالتالي، أصبح الوعي والثقافة والعلم بكل المعاني ضرورات لمواجهة كل وباء، بمعنى من المعاني، إن مجتمعا واعيا يمكنه أن يشكل قوة جماعية في مواجهة أي عدو ظاهر أو خفي. هناك درس أساسي كذلك يمكن أن نتعلّم منه، إعادة النظر في التفرقة الطبية التي كانت تسود المجتمع، حين يتمتع بعض أفراده فقط بنعمة السفر والعلاج إلى الدول المتقدّمة. وبسبب هذا الفيروس انقلبت المعادلة، فعلى كل مريض أن يعتاد على المعالجة في بلده. وبالتالي، تلك المبالغ الضخمة التي كانت تصرف لعلاج "خاصّة الخاصّة" في الخارج، يجب أن تُصرف في تحسين الأوضاع الصحية في بلداننا. يجب كذلك تطوير البحوث والتعليم الصحي وتطوير المختبرات واستحداث مصانع محلية لصناعة الأدوية، بدل الاعتماد على "سماسرة" الداخل والخارج ليوفر هؤلاء الدواء بأسعار خرافية.
وفي حقيبة كورونا تعاليم لا تقف عند حد، توجّهنا إلى النظر في أهمية تفاصيل صغيرة لم نكن نلتفت إليها، وهي في عمقها كبيرة ومفصلية، ابتداء من البيت الذي تعلمنا الآن كيف ننسج معه علاقة حميمية، وكيف نجعل عزلتنا تفاعلية خلاقة. تفاصيل كثيرة لا تنتهي، تبدأ من الاهتمام بكفّ اليد، حيث كنا من قبل ننظر إلى أيدينا تفصيلا عابرا تحكمه العادة، ولكننا الآن تعلمنا أن نتعرّف على أيدينا ونراقب تحرّكاتها، لسبب أساسي، أنها من يمسك بزمام حياتنا، وليست تفصيلا عابرا، كما حدث لفوطة ألبير كامو التي اعتبرها المدير "أمرا ليس ذا شأن".
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي