أسئلة وفرضيات لزمن ما بعد كورونا

أسئلة وفرضيات لزمن ما بعد كورونا

06 ابريل 2020
+ الخط -
ظل الإنتاج الإنساني على الدوام مرتبطاً بحاجات البشرية ومتطلباتها المادية والرمزية، تأثيرا وتأثّرا، وهي مسألة تؤكدها أسماء الأعمال الإبداعية التي تعكس سياقات ولادتها (فيلم "خروج القطار" للأخوين لوميير)، (رواية "الحب في زمن الكوليرا" لماركيز)، وكذا ما تضمنته الكتب والدراسات النقدية التي تؤرّخ لتطور الإبداع عامة، من خلال تركيزها على الشروط التاريخية والموضوعية التي أدّت إلى تشكّل رؤى المبدعين والأدباء، تلك الرؤى التي حرص أصحابها على اعتبارها رؤية للعالم.
وهنا لا حاجة إلى جهد كبير للربط بين الأحداث المأساوية التي عرفها النصف الأول من القرن العشرين ونشأة تيارات ومذاهب تدعو المبدع إلى التحرّر والانعتاق من أسر التقليد، ما جعل الأعمال الإبداعية في تلك المرحلة تأخذ أسماء تعبّر عن هويتها التاريخية، كالتجريب مثلا. ولعل تأثير ذلك الدمار وصل إلى حد الكشف عن هشاشة الفكر الإنساني أمام قوة الاندحار، فتهاوت مدارس واتجاهات، وبزغت أخرى في حقول مختلفة، مثلما حصل في: التشكيل (الرمزية)، والمسرح (العبث)، والسينما (الموجة الجديدة)، وفي الأدب حيث الرواية الجديدة والشعر الحر. وقد كان ظهور مجموعة من التيارات الإبداعية والمناهج النقدية بسبب المراجعات الفكرية التي خضع لها الفكر الغربي، وبفعل التراكم الذي حققته الحركة الحقوقية والتشريعية منذ الثورة الفرنسية، الأمر الذي أدى إلى تجاوز كل المدارس والتيارات التقليدية، وفي مقدمتها المدرسة الواقعية.
من الأسباب الرئيسية التي ترسخت في نصوص المؤلفين والنقاد بخصوص التحول في الأدب 
العربي الحديث عامة، والشعر بشكل خاص، وتوارثناها كاتبا عن قارئ، هي نكسة 1967، وما تركته، قبل ذلك، النكبة الفلسطينية من وجع في جسد عليل، فما الذي يحتاجه المثقف العربي لصياغة وعي جديد بهذه المرحلة؟ خصوصا وأننا أمام منعطف حاسم للانتقال نحو مرحلة مغايرة، من المفروض أن تعكس واقعنا وتبث مآسينا، في ظل عجز نظام العولمة عن مواجهة "فيروس" سوريالي بالمفهوم الأرضي، وهو عجز كشفه فقدان الأنظمة قوة القمع والسلطة لفائدة وسائط جديدة، ناهيك عن الصورة العبثية التي جسّدتها دعوة المؤسسات الصحية، في عصر الطفرة التكنولوجية، إلى مواجهة هذا "العدو" بالماء والصابون والحجْر الصحي! أليست هذه الدعوة إعلان عودة التقليدانية إلى واجهة الفعل الثقافي عالميا؟
ولكن، إلى متى ستبقى صور الحربين العالميتين وفظائعها ملهمة للتغيير بما يكفي، مقارنة بما يحدث الآن من موت ممتد عبر المعمورة، وبوتيرة متسارعة، لم يشهد التاريخ الحديث لها مثيل (من حيث الشكل على الأقل) إلا من خلال قصص الغابرين؟ ثم، ألا يعد هذا الوباء أشد فتكا على العالم، مما خلفته الحروب والتدخلات العسكرية المباشرة في أجزاء محدّدة في العالم؟ أليس عجز الأب (الطبيب) عن احتضان أبنائه بعد نهاية "دوامه" من أكبر المشاهد إيلاما التي خلفها هذا الفيروس إلى الآن؟ لأنه في الحروب التقليدية، عادة، تتقارب القلوب، وتتهاوى الخلافات، ويتقوّى النسيج الداخلي، ويطفو الحب في المجتمع، وتطغى مشاهد القُـبَل بين الجنود.. هذه الصورة التي استعملت لبث روح القتال في نفوس الجنود، وحوّلتها شاشات "البروباغندا" إلى عناوين لقيم السلام الغربية في مواجهة التوحش القادم من جغرافيا الغير.
ما نعيشه راهنا من أحداث متصلة، سواء في صورتها التراجيدية في وطننا العربي، أم في
أجزاء متفرّقة من العالم، جديدها التفشّي الحالي للوباء المسمّى كورونا (كوفيد 19)، كفيلة بأن تغير القناعات الفكرية والاختيارات الجمالية لصانعي الإبداع على مستوى العالم، وأن تدشّن تصورات جديدة، خصوصا وأن هناك وجهة نظر، وإنْ بدت على هامش أولويات المجتمع حاليا، تربط بين ظهور هذا الوباء وتسابق القوى العظمى نحو الريادة العالمية والهيمنة الاقتصادية بأية وسيلة، ما يرفع من مسوّغات ما تسمّى "نظرية" المؤامرة، ويزكّيها الإنهاك الذي أصاب ظاهرة الحرب بالوكالة، والتي لم تعد قادرةً على تحمل تبعات ذلك الإجهاد. (يمكن العودة في هذا الصدد إلى تدوينة لمسؤول في الخارجية الصينية على حسابه في "تويتر" يتهم فيها الولايات المتحدة بالمسؤولية عن انتشار الفيروس).
يكاد المتأمل في السيناريوهات المحتملة للواقع الاقتصادي للدول في مرحلة "ما بعد كورونا" يجزم بأن العالم مقبل على تحوّل جذري في منظومة العلاقات الدولية، بما يسمح بتراجع قوى، أو ببداية التراجع، إن غلّبنا التفاؤل على التشاؤم، وظهور كيانات جديدة وقوى إقليمية أخرى صاعدة، ستستفيد مما يحصل الآن. ألم تتأسّس، إذن، الأمم المتحدة (عصبة الأمم) بناء على نتائج الحرب العالمية الثانية؟ ثم، ألا يعد هذا الوباء دافعا نحو فقدان المؤسسات الدولية مشروعيتها الواقعية التي تأسّست لضمان السلم والأمان للقوى العظمى؟
من يتجاهل حركة العالم، ولا يُحسن ترجمة آثار وجعه في نهاية المطاف، يصعب عليه أن يغري الجمهور للذهاب إلى فضاءات الترفيه والتثقيف باسم الفن والأدب.. إننا أمام فرصة تاريخية لإعادة الاعتبار لفن الشارع، وفرجات الميادين، وفنون الفيديو، والوسائط الجديدة.. من دون سلخ للذات أو انبهار بالآخر، والتشبث أكثر بالقيم الكونية التي تُعلي من شأن الإنسان، والتكتل من أجل الحفاظ على رافد ذلك كله، وهو حقل التربية والتعليم.

دلالات

B0CAF837-FC92-4DAD-BC6D-F70865535BBF
B0CAF837-FC92-4DAD-BC6D-F70865535BBF
كريم بابا
كريم بابا