هل ورّطتنا "التخمة المعلوماتية"؟

هل ورّطتنا "التخمة المعلوماتية"؟

05 ابريل 2020
+ الخط -
شأن كل المنعطفات التاريخية الكبيرة، يستدعي العقل الإنساني، فرديًا وجماعيًا، خليطًا من المقولات التفسيرية، الموضوعية، والعقلانية، والأسطورية، و... ... فضلًا عن كل ما يمكن اعتبارها "نبوءةً"، أيًا كان السياق الذي وردت فيه. ورغم أن الإعلام امتلأ سريعاً بالحديث عن رواية توقعت أو فيلم استشرف المستقبل، أو عرافة تنبأت، فإنه، في حالة وباء كورونا، لم يقترب البحث عن طرفٍ ما "تسببَّ" أو "دبَّر"، على الإطلاق، من قضيةٍ سياسيةٍ أسهمت في وقوع الولايات المتحدة ودول أوروبية في "ورطة كورونا". هذه السمة تعد لصيقة بعصر المعلومات، وهي الوجه السلبي لوفرة المعلومات، أو ما أطلق عليه، في السبعينيات، السوسيولوجي الأميركي ألفين توفلر "الإغراق المعلوماتي". ويقرّر هذا الباحث المرموق في 2019 أنه "عندما يشعر الناس بالتخمة من حجم المعلومات التي يواجهونها تصعب عليهم معرفة ما يجب التركيز عليه. ويصبح الانتباه وليس المعلومات هو المورد النادر". 
وعلى الرغم من أن مؤسسات ومراكز "الثينك تانك" في عالم اليوم أسهمت، بشكل غير مسبوق في التاريخ، في مراكمة رصيد من الأدبيات حول القضايا العامة، إلا أنها، ربما بالقدر نفسه، وضعت صانع القرار تحت ضغط تخمة معلوماتية، هي بلا شك مربكة. وقد جاءت موجة "السيناريوهات الاستشرافية" التي لم تزل متصاعدة منذ عقود، لتزيد المشكلة تعقيدًا، والمبالغة المجانية في فوائد "رقمنة" أداء الدولة والقرار السياسي معًا، بقدر متساوٍ كان مؤشرًا على الخلل الجسيم الذي لا يتحقق الانتباه له إلا عندما تقع الواقعة، فالبنية الرقمية لا تنطوي على "منطق تفكير"، و"المخرجات" التي يحصل عليها صانع القرار منها ليس سوى "المدخلات"، ويعبر عنه التعبير الأميركي الشهير: "Garbage In Garbage Out"، فالمدخلات فاقدة القيمة لا ينتج عنها سوى مخرجات من النوع نفسه. ومنذ صدور "تقرير نادي روما" الشهير/ الكئيب، (1972)، وسيل السيناريوهات المتشائمة لمستقبل العالم، بيئيًا واقتصاديًا وسكانيًا و..، لا يكاد ينقطع.
وعليه، فإن صانع القرار، وهو مسؤول في كل الأحوال عما يهمل وما لا يهمل من معطيات، لا يكون بالضرورة "متآمرًا" أو منتفعًا، فهذا قد ينطوي على تبسيطٍ يحمّل أفرادًا أو حكومات 
مسؤولية حفرة سقط فيها العالم، خصوصا الغرب، في حفرة "التخمة المعلوماتية"، حيث يتخذ صانع القرار قراراته تحت ضغط كم من المعلومات (فضلًا عن تفسيراتها التي قد تكون متعارضة) يجعل بعض القرارات عبئًا حقيقيًا على أي صانع قرار، مهما كانت كفاءته أو كفاءة إدارته السياسية.
وبشكلٍ عام، يبدو إنسان القرن الحادي والعشرين أكثر حساسية للمخاطر التي يمكن أن تهدد واقعه "المرقمن" إلى حدٍ كبير، فالطبيعة الافتراضية لهذا العالم تجعل كل أطرافه مسكونةً بهاجس الانهيار، لأقل هزة أيًا كانت طبيعتها، وهذه الحساسية المفرطة لها مصادر عديدة بينها، أكوام مكدّسة من النبوءات المتشائمة والخيالات الجامحة، يضاف إليها إحساس عميق بهشاشة الوجود الإنساني، وعالم الفرد. ومن العوامل التي يرجّح أنها ذات تأثير ساحق على صانع القرار السياسي، درجة التأثير والتأثر المتبادلة بين كل الدول تقريبًا في عالم الاقتصاد، فتحوّل لون مؤشر أسهم البورصة في أيٍّ من البورصات الكبيرة في العالم يهدد بنقل العدوى إلى أية بورصة في العالم، وهو ترابط يزداد تعقيدًا، وتزداد معه تعقيدات اتخاذ القرار السياسي في عواصم كثيرة.
ولتتخيل نفسك، بالفعل، في المكتب البيضاوي في البيت الأبيض، أو مكان رئيس وزراء بريطانيا في "10 داوننغ ستريت"... وأمامك معطيات "ترجّح" تفشّي وباء كورونا، وأمامك، في الوقت نفسه، الفاتورة الاقتصادية المحتملة لاتخاذ إجراءاتٍ استباقيةٍ فورية، مؤكّد أنك أولاً ستفكّر جدّيًا بدافع أخلاقي وإنساني. وستكون راغبًا في اتخاذ قرارٍ أكثر مبدئية، وأميل إلى التحوط. لكن خبرة صناع القرار، وهي ليست قليلة، مع السيناريوهات التنبؤية المتشائمة التي لم تحدث، والتقدير الواقعي لكلفة تقييد حركة الاقتصاد وقائيًا، ستجعل القرار موضوع تفكير.
حاول أن تتخيل قبل أن تتسرع في التقييم.