لبنان .. أزمة نقدية أم سياسية؟

لبنان .. أزمة نقدية أم سياسية؟

01 مايو 2020
+ الخط -
يقول أينشتاين إن المشكلات الموجودة في عالم اليوم لا يمكن أن تحلّها عقول خلقتها.. ويمكن إسقاط هذه المقولة على الوضع اللبناني الحالي، فالمشكلات التي يعانيها الشعب اللبناني منذ ثلاثين عاماً، وراكمتها الطبقة السياسية المتحكّمة بالبلد، لا يمكن أن تكون هذه الطبقة بأي شكل طرفاً في حلها، فهي التي أوجدتها وراكمتها عبر السنين. 
ومع وصول سعر صرف الدولار في لبنان إلى مستوىً غير مسبوق، بتجاوزه حاجز أربعة آلاف ليرة لكل دولار، ومع اشتداد السجالات السياسية وحروب التصريحات الإعلامية والبيانات والصراعات غير المسبوقة، من جهة بين السلطتين، التنفيذية، ممثلة بالحكومة ورئيسها حسان دياب، والنقدية، الممثلة بحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، والمرجعيات الدينية ممثلة بالبطريرك بشارة الراعي من جهة أخرى، يبدو أن لبنان دخل مرحلة جديدة من مراحل التأزم، عنوانها العريض البحث عن أضحية في ظل "ثورة الجياع"، بعد أن بات الجميع، في كواليس السياسة اللبنانية، يبحث عن هذه الأضحية ليتم تحميلها مسؤولية هذه المشكلات في محاولة لحرف الانتباه عن المشكلات الأساسية التي يعاني منها لبنان.
في إطار هذه السجالات والمناكفات السياسية والصراعات، يحاول بعضهم تحميل المصارف ككل مسؤولية هذه المشكلات، في حين يحاول آخرون تحميل حاكم مصرف لبنان شخصياً هذه المسؤولية، وهناك من يحاول توجيه سهام الاتهام باتجاه المعارضة، وتحديداً تيار المستقبل ومن معه من قوى 14 آذار.
أمام هذه المعمعة السياسية المتنامية، يمكن القول إنّ كل من يدفع بتحميل المسؤولية للمصارف، بما فيها جمعية المصارف التي تأسست عام 1959، أو لحاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، فهو لا يفقه شيئا، والسبب أن ما يعانيه لبنان سببه الفساد السياسي بالدرجة الأولى، قبل أن يكون الفساد الإداري، فمن الخطأ هنا إلقاء مسؤولية كل ما حصل من انهيار مالي على سلامة، وعلى المصارف، وإنْ صحيحٌ أنهما يتحمّلان جانباً أساسياً من هذه المسؤولية، بسبب التجاوزات التي 
ارتكبوها طوال السنوات الماضية من إخفاء بعض الحقائق إلى الدخول في معالجات مكلفةٍ وغير مفهومة الأهداف، ولكن المسؤولية الأساسية والأكبر تتحملها الحكومات اللبنانية المتعاقبة، وكذلك مجالس النواب والرئاسة اللبنانية. وفي المجمل، تتحمّلها المنظومة السياسية ككل، فهي من كانت تتعامى عن التجاوزات، وهي من كانت شريكا أساسيا في هذه التجاوزات، وهي من كانت سبباً أساسياً في أخذ ودائع المودعين في البنوك، وهي من استدانت باسم الدولة من مصرف لبنان، وامتنعت عن تسديد الديون المتوجبة عليها، وتسببت بالعجز والهدر والفساد والسرقات، وسوء إدارة الأموال وسوء إدارة الدولة، وحمايتها الفاسدين والسارقين، وتحاصصها وتقاسمها وتوريطها في الحروب والأزمات، وهي التي ساهمت في وقف تدفق الاستثمارات والتحويلات إلى لبنان، بفعل رضوخها للإملاءات الإيرانية، وعدائها للعرب والمجتمع الدولي. وفي النهاية، حاكم مصرف لبنان مجرّد موظّف يتخذ قراراته ضمن هامش تقاطع المصالح بينه وبين السلطات السياسيّة المتعاقبة، فالرجل ليس سوى تفصيل في لعبة كبيرة ذات طابع سياسي. ولذا قبل محاسبته، تجب محاكمة المنظومة السياسية الفاسدة التي حرصت على التجديد له، منذ استلامه هذا المنصب قبل 27 عاماً. وقبل محاسبته، تجب محاسبة الحكومات السابقة والمجالس النيابية والأحزاب السياسية التي امتنعت عن القيام بأي إجراءاتٍ لخفض العجز في الموازنة والخزينة، وامتنعت عن القيام بالإصلاحات الضرورية لمعالجة المشكلات المالية المتفاقمة، وتسببت بهدر مليارات الدولارات.
وقبل محاسبة حاكم مصرف لبنان، تجب محاسبة "حكومة المستقلين" التي فشلت في تعيين نواب 
الحاكم الأربعة، نتيجة الخلافات على الحصص وتقاسم المناصب، والمفترض عليهم أن يشتركوا في إدارة المصرف مع الحاكم من خلال المجلس المركزي للمصرف، وكذلك فشلت في تعيين لجنة الرقابة على المصارف، وهي اللجنة المسؤولة عن رقابة عمليات المصارف الخاصة. وقبل محاسبة الرجل، تجب محاسبة "حكومة الكفاءات" التي فشلت في إعداد خطة اقتصادية إنقاذية، بسبب الخلافات والمحاصصات والتوازنات والتدخلات.
في المحصلة، يمكن القول إنّ أزمة لبنان سياسية، قبل أن تكون أزمة نقدية، فمن يحاول أن يصور الأزمة بأنها محصورة بالقطاع المصرفي والإجراءات المتخذة من مصرف لبنان وتعميمات حاكمه، رياض سلامة، فهو واهم، فما يعاني منه لبنان حالياً على الصعيدين، المالي والاقتصادي، ناجم عن الهرب من مواجهة الواقع المتمثّل في أنّ لا مستقبل لبلد تحوّل إلى مزرعة للسياسيين وزعماء الطوائف والعائلات السياسية، كل طرف يلهو بحصته من المزرعة كما يشاء، فمن يعتقد أنّ الطبقة السياسة الفاسدة في لبنان قادرة على إخراج لبنان من مشكلاته المتراكمة فهو واهم وواهم جداً، فالأيادي المتسخة لا تكتب الصفحات الناصعة للتاريخ.