موسم "الهجرة" إلى الأوطان

موسم "الهجرة" إلى الأوطان

04 ابريل 2020
+ الخط -
تنشب أزمة سياسية في لبنان، إثر مطالبة رئيس مجلس النواب (الدائم)، نبيه بري، حكومة حسان دياب بضمان عودة اللبنانيين المغتربين في الخارج إلى وطنهم. وإعادة هؤلاء ليست بالأمر اليسير، فمطارات عديدة في العالم أوقفت تسيير رحلات الطيران المدني أو استقبالها. وتتجه النية إلى تسسيير رحلات للشركة الوطنية (طيران الشرق الأوسط) للقيام بهذه المهمة العسيرة، فيما يجري تدارس تغطية الكلفة المالية من الحكومة المثقلة بالديون، والعاجزة عن سداد الأقساط المستحقة في مواعيدها.
عودة المغتربين اللبنانيين من بلاد الاغتراب؟ لطالما اعتبر وجود هؤلاء رأس مال ماليا ورمزياً للبلد الأخضر. وتعود هجرات اللبنانيين إلى أكثر من قرن، وتعدادهم يفوق تعداد اللبنانيين في وطنهم (أكثر من 14 مليونا في الخارج وأقل من أربعة ملايين في الوطن)، وهم ينتشرون في القارات الست (الإعلام اللبناني يسميها بلاد الانتشار). ولأهمية موضوع الاغتراب، فإن وزارة الخارجية في هذا البلد هي أيضا وزارة المغتربين، وتتعلق الدعوة إلى تيسيرعودتهم بانتشار وباء كورونا في غالبية دول العالم، واحتمال تعرّض المغتربين للخطر، وإذا تحققت عودتهم (ليس جميعهم بالضرورة، بل من يستشعر الخطر الصحي، أو من فقدوا مورد أرزاقهم في ظروف انتشار الجائجة) فسوف يخسر لبنان موردا مهما للدخل العام.
والحال أن فكرة إعادة هؤلاء تندرج ضمن توجه عالمي إلى إعادة المغتربين من الأماكن التي يشتد فيها خطر الوباء. وثمّة حركة ناشطة في هذا الاتجاه العكسي بـ "الهجرة" إلى الأوطان وليس منها، وهذا من خوارق الوباء. وقد فعلت دول أوروبية عديدة ذلك، إضافة إلى كوريا 
الجنوبية والصين. ومن المفارقات أن الصين التي شهدت انطلاق الجائحة باتت تشكو حالياً من أن الإصابات الأخيرة، خلال شهري فبراير/ شباط ومارس/ آذار، بين شعب المليار ونصف المليار نسمة، تسبب بها صينيون حملوا معهم الفيروس من الخارج إلى بلاد التنين، فمن بلدان مثل إيطاليا وإسبانيا وفرنسا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، إضافة إلى إيران ودول أخرى يتفشّى فيها المرض، يعود كثرةٌ من المقيمين إلى ديارهم كلما يتيسّر لهم ذلك، إذ لم يعد هناك من مكان آمن على كوكبنا، فالدول المتقدّمة تقدّمت بما لا يقاس على الدول الفقيرة والضعيفة في عدد الإصابات والوفيات ونسبة التوقعات المتشائمة. ولا يعود الجميع (فكيف للسوريين أن يعودوا إلى وطنهم مثلا)، إلا أن الاتجاه العام والمتنامي يشير إلى تحبيذ نسبة كبيرة مبدأ العودة إلى الديار، فإذا كان لا مناص من التعرّض للمخاطر، بما في ذلك توقّع الأسوأ، فليكن بين الأهل وعلى تراب الوطن.
وبموازاة ذلك، فإن انعزال دول المعمورة عن بعضها بعضا، مع شلل حركة الطيران، وفي واقعةٍ لا سابق لها حتى لدى قيام الحروب، قد رافقه عزل مناطق ومدن بعينها، يُحظر الدخول إليها والخروج منها، كما وقع ابتداءً مع مقاطعة هوبي (وفيها مدينة ووهان) في شرق الصين مطلع العام الجاري، وقد استنت دول عديدة السنّة نفسها، فأقدمت على ذلك مثلا إيطاليا بعزل إقليم لومبارديا شمال البلاد، وعلى الرغم من وجود الحكومة المركزية ونفوذها، فإن هذا العزل يفاقم من حالة التقوقع على الذات المناطقية والجهوية، لا الوطنية والمحلية فحسب.
هكذا، وبعد أن نجح فيروس كوفيد - 19 في دفع نحو نصف مجموع البشرية إلى المكوث في 
منازلهم، لا يبرحونها إلا للضرورات وخلال أقصر الأوقات، ها هو الفيروس نفسه يُفلح في دفع المهاجرين والمقيمين في الخارج إلى العودة القهقرى إلى البيت الكبير (الوطن). وإذا ما استمر الوباء في التفشّي خلال الأسابيع المقبلة، فلنا أن نتصوّر مزيدا من مظاهر الهجرة المعاكسة إلى الأوطان. ولئن كان من الصحيح أن العالم قد تحول، حتى نهاية العام الماضي (2019)، إلى قرية كونية متصلة الوشائج والمنافع والحاجات، فالصحيح أيضا أن هذه القرية باتت موبوءة. ويا لها من سمعة سيئة، ويا له من تقهقر مريع. يعيد إلى الأذهان أشباح ما كان يقع في قرىً نائية وشحيحة السكان، في قارات آسيا وأفريقيا وأميركا الجنوبية، في العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين، مع أوبئة الكوليرا والطاعون والملاريا والإنفلونزا الإسبانية وسواها. وكأن كل ما قطعته البشرية خلال قرن على الأقل على طريق العالمية (عالمية النماذج ومصادر الجذب وإلهام المحاكاة) قد بات مهدّدا بأن يُطرح جانبا مع فشل العالم المتقدّم في مكافحة الوباء، وقبل ذلك في توقعه والتهيؤ للتعامل معه والوقاية المبكّرة منه، فلم يعد هناك على صعيد الرعاية الصحية وحماية الأفراد من الأوبئة والأمراض المُعدية والسارية من فرق بين دول أفريقية مستعمرة سابقا تشيع فيها اللغة الفرنسية، وبين فرنسا التي تحتضن ملايين المهاجرين من منابت أفريقية، وتشكو حاليا من اضطراب الصدمة الشديدة، والسباق مع الزمن، لتفادي الأسوأ. وفي حال استمرار تفشّي المرض في أرجاء العالم، ومنه بلد فولتير، فقد تتحقق جزئيا رغبات اليمين الشعبوي المتطرّف بعودة أعداد كبيرة من المهاجرين إلى أوطانها، إذا تيسرت لهم السبل إلى ذلك، وفي ظل حاجة بلد الأنوار إلى وجود هؤلاء، لتدارك الأضرار الجسيمة التي أصابت عجلة الإنتاج.
واذ يعود من يعود من المهاجرين، وإذ تنادي أوطانٌ أبناءها المغتربين للعودة، بعد أن ضاقت الخيارات، وغدا التماس النجاة يتقدّم على التماس الرزق، وأصبح الخيار يدور، في بعض الحالات، بين شر مستطير في الخارج وعسر الحياة في الأوطان. في هذا الوقت، فإن كثرة من المهاجرين يواجهون أبوابا مغلقة أو مخاطر فادحة، كحال الفلسطينيين الذين تمنع سلطات الاحتلال عودتهم إلى الضفة الغربية وقطاع غزة منذ أزيد من نصف قرن، وكحال لاجئين يمنيين وليبيين وصوماليين، وسواهم من المشرّدين ممن تزيد جائحة كورونا من مكابداتهم، بينما يستشعر بقية سكان المعمورة أن كوكبنا بات يشكو من أعطاب بنيوية واختلالات جوهرية، تجعله غير صالحٍ للعيش على سطحه.