جيش مصر الأبيض

جيش مصر الأبيض

04 ابريل 2020
+ الخط -
لا يُعرف بالضبط مصدر هذا اللقب الجديد الذي حمله أطباء مصر فجأة، وبقدر الجدل حول مصدر التسمية بقدر الجدل حول دلالاتها. أبدى بعضٌ غضبهم باعتبارها تنسب الفضل إلى الجيش بوصفه معيار القياس للوطنية والبطولة، هو مصدر القيمة، لا الأطباء بحد ذاتهم، كالقمر يعكس ضوء الشمس. وللمفارقة، ظهرت تعليقات غاضبة عكسية، فلجنة الدفاع عن حرية الصحافة، وهو اسم على غير مسمّى، أصدرت بياناً يدعو وسائل الإعلام إلى التوقف عن استخدام هذا التوصيف، لأن "فيه ارتقاء، حتى ولو بالوصف، لبعض الفئات، ومساواتها بالجيش المصري" وأكد البيان أن "القوات المسلحة الباسلة لا ترقى إلى دورها أي فئة". ولكن يمكن بلا كثير مبالغة القول إن أغلبية الأطباء والمجتمع قد حملوا الاسم على أفضل الوجوه، واعتبروه لأول مرة عرفاناً بفضل فئةٍ غير مسلحة.
حين أسمع هذا التوصيف، أعتبره مُصدّقاً من زاوية غير معهودة، فالأطباء بالفعل يتشاركون روح الجيش بوجه من الوجوه. يعرف دارسو العلوم العسكرية مفهوم رابطة أخوة السلاح التي تنشأ بين أفراد الجيش من الدفعة نفسها، أو في الكتيبة نفسها. روحٌ رفاقية تجعلهم حرفياً يحمون ظهور بعضهم في أثناء القتال، أو مجازياً يكرّرونها خارج الجبهات. وشهدنا، في انقلابات عربية، كيف كانت النواة الصلبة للتنظيمات هي الرابطة التي نشأت بين أفراد دفعة واحدة، أو جبهة واحدة، تذوب فيها الفوارق بين الرتب، كحرب 1948 بالنسبة لتنظيم الضباط الأحرار في مصر.
تنشأ بين الأطباء المرابطين داخل المستشفيات روحٌ مشابهة، يبيتون معاً ويواجهون مخاطر العدوى أو اعتداءات مرافقي المرضى معاً. أذكر في إحدى الوقائع في مستشفى كبير خدمت فيه في القاهرة أننا شعرنا بالإهانة، بسبب اعتداء لم يتصدّ له أفراد نقطة الشرطة الموجودة، فاتحدنا جميعاً، بدءاً من مدير المستشفى المسائي ونهاية بطلاب الامتياز (عام التدريب الأخير في الكلية) على الإغلاق الكامل، وهو ما أدّى، خلال ساعتين فقط، إلى حشود من المواطنين الغاضبين في الخارج، واستدعى حضور الشرطة واتصال وكيل الوزارة واعتذارات ومفاوضات مطوّلة انتهت بفرض ما أردناه.
والسيناريو نفسه على نطاق أوسع، شهدت مصر أكبر جمعية عمومية وتظاهرات مرتبطة بقضية نقابية عام 2016، بعد اعتداء أمناء شرطة على أطباء في مستشفى المطرية، ما أدى لاحقاً إلى صدور أحكام غير مسبوقة على تسعة أمناء شرطة بالحبس ثلاث سنوات.
وأخيراً مع أزمة كورونا، يتكرّر المشهد، ولكن هذه المرة بعد اكتساب نقاط قوة حقيقة. مقطع مصور واحد من طبيب واحد، هو أحمد كمال، في مستشفى بولاق، عن اشتباه إصابتهم بالفيروس، اجتذب مئات آلاف المشاهدات، وتحرّكاً فورياً واعتذارات وترضيات، أدّت إلى أن يخرج هو نفسه في اليوم التالي مع رفاقه الممرّضين شاكرين، بعد إجراء التحاليل لهم جميعاً وظهور سلبيتها. في وضع آخر، كان الفاعل سيُقبض عليه بتهمة "نشر أخبار كاذبة".
شهدنا أخيراً قرارات رئاسية غير مسبوقة برفع بدل المهن الطبية 75%، وبمضاعفة مكافآت طلاب الامتياز (عام التدريب الأخير في الكلية) من 400 جنيه إلى 2200 جنيه، واعتراضات شرسة في البرلمان والإعلام الرسمي على ضعف قيمة "بدل عدوى" الأطباء.
ولعل هذه محاولات تعويض عن نقص "الأسلحة" الذي سيظهر بلا ريب إذا زادت الحالات، فالتجهيزات الطبية، كأجهزة التنفس الصناعي، وأدوات الوقاية، هي بالأساس ناقصة في دولنا، والتي تعاني اليوم في إيجاد أي مُصدّر أو بدء خطط تصنيع محلي متعجلة.
وفي الواقع، أكبر عنصر لمصداقية عدم خروج أوضاع الفيروس في مصر عن السيطرة حتى الآن هو عدم انهيار القطاع الطبي، والذي لم يكن ليخفى أبداً مع وجود ما لا يُحصى من شهود العيان، حاملي كاميرات الهاتف من أفراد الجيش الأبيض.
وفي المقابل، يجب إدراك أن هذه الروح الرفاقية تخص الجبهات، أي كل مستشفى، لكنها لا تمتد بالقدر الكافي للأطباء كفئة، حيث بينهم مصالح مختلفة، بل ومتناقضة، فضلاً عن شيوع الحلول الفردية، وعن دور التضييق الأمني على المجال العام بالكامل.
تحتاج الجيوش إلى أسلحة، وتحتاج أيضاً إلى روح معنوية، ولعل الجيوش البيضاء في العالم تصبح فعلاً في موضع مختلف، إذا صدق القول المكرر إن ما بعد كورونا ليس كما قبله.