تونس .. إحياء الدولة الاجتماعية

تونس .. إحياء الدولة الاجتماعية

04 ابريل 2020
+ الخط -
تواجه الحكومة التونسية الجديدة، برئاسة إلياس الفخفاخ (27 فبراير/ شباط)، عدة تحديات، بإمكانات شحيحة، في ظل سيناريوهات متحولة ومفاجئة، ما جعل الجهد الحكومي اجتماعيا خالصا، سخّر للصحة والحماية الاجتماعية وتلبية الطلبات المباشرة والعاجلة لمواطنين ألزموا بالحجر والمكوث في المنازل، و"حرموا" من لقمة عيشهم اليومي في غالبيتهم. حصار شدّهم لوسائل الإعلام لمتابعة إحصائيات المصابين والمتوفين والناجين، وما تعلن عنه الحكومة من تدخلات ومساعدات ومعالجات عاجلة، هي اليوم محور اهتمام التونسيين، وخصوصا المعوزين والمحتاجين والمعطلين وفاقدي السند وذوي الاحتياجات الخاصة. وبرزت من جديد صورة الدولة الاجتماعية الراعية التي أسست لها دولة الاستقلال، وعنيت، منذ الحكومة الأولى 1956 برئاسة الحبيب بورقيبة، بالملف الاجتماعي تحت يافطة "تونس الاجتماعية"، ممثلة في منظومة تقوم على محاور الضمان والنهوض الاجتماعيين، ومقاومة الفقر، ورعاية الفئات الاجتماعية التي اهتمت بها حكومة الاستقلال والحكومات التي تلتها في الجمهورية الأولى (1957 – 2011). وقد شملت هذه السياسة الاجتماعية المعطلين عن العمل والأرامل والطفولة فاقدة السند والمرأة الريفية وحاملي الإعاقة والمسنين، ناهيك عن إقرار مجانية التعليم وإجباريته وتوفير الخدمات الصحية. وقد شهدت هذه المرحلة ميلاد الاتحاد التونسي للتضامن الاجتماعي 1959، تلاه صدور أول قانون عربي للضمان الاجتماعي 1960، وتأسيس الصناديق الاجتماعية، والتعاونيات وهياكل التأمين. 
وانطلاقا من أواخر سبعينيات القرن الماضي، شهد منوال التنمية في تونس جمودا وعجزا عن تلبية متطلبات النمو الديموغرافي، ونسق التنمية الشاملة، ما أدى إلى تراجع دور الدولة 
الاجتماعية الراعية وانحصاره في الحماية الاجتماعية لرعاياها، وقد فرض هذا الواقع التنموي الصعب تحدّياتٍ زاد من عمقها السياق الاقتصادي والاجتماعي الدولي، المتسم بتحولاتٍ متسارعةٍ، ناجمة أساسا عن العولمة وتأثيراتها العميقة على نظم الإنتاج والعمل، وارتفاع نسب البطالة والفقر في أغلب الدول النامية (ومنها تونس)، علاوة على تفشّي ظاهرة العمل غير المنظم.
وفي الحالة التونسية، ظلت هذه التحدّيات الاجتماعية محل اهتمام حكومات ما بعد الثورة. ولكن مؤشرات الفقر سجلت ارتفاعا لتتجاوز نسبته 25%، وبلغت نسبة البطالة 15.1%، وعلى الرغم من الجهود المبذولة في تعاون بين الحكومة والأطراف الاجتماعية (الاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية والاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري)، والتي حققت أهدافا رسمها مخطط التنمية الخماسي (2016 – 2020)، إلا أن المشهد العام ظل يتسم بتراجع دور الدولة الراعية التي تربّى في حضنها التونسيون مع بدايات استقلال بلدهم، لتطفو هزّات اجتماعية وإضرابات عن العمل وتجاذبات سياسية وتراجع للإنتاج أثرت كلها سلبا على الوصول، بهذا الجهد الاجتماعي، إلى نتائجه المرجوّة، ما جعل محاربة الفقر شعارا رفعته كل الأحزاب في حملاتها الانتخابية لاستحقاق 2019. ولعل هذا الشعار هو الذي أدى إلى فوز حزب قلب تونس بالمرتبة الثانية في تلك الانتخابات (38 مقعدا)، كما حاز الشعار نفسه حيزا واسعا في البرنامج الانتخابي لحركة النهضة. كما كان حاضرا في حملة قيس سعيد للاستحقاق الرئاسي. وجاءت حكومة الفخفاخ لتؤكّد، في برنامجها، هذا التوجه، وتعتمده شعارا للمرحلة، علاوة على محاربة الفساد.
اليوم أمام التحدّيات الجمّة التي فرضها فجأة وباء كورونا على الحكومة، يبرز الدور المتعاظم 
لهياكل الدولة، وخصوصا وزارة الشؤون الاجتماعية التي تبذل جهودا جبّارة من خلال برامجها التي تُعلن تباعا لتشمل كل الفئات، وقد اتسمت منهجية هذه البرامج بالشمولية والنجاعة، ما ساعد على احتواء الأزمة وتطويقها، خصوصا بما توفر للوزارة من تطبيقات عمل عن بعد، وبنوك معلومات، كانت خير وسيلة لإحصاء المستفيدين ومساعدتهم، ما كشف عن دور الوزارة الريادي في حالات الأزمات والجوائح، ما سيجعل منها بعد كورونا وزارة سيادة بامتياز، وهو ما استشعره واقعا ملموسا متابعو أدائها، تماما كأداء المؤسسات الصحية والأمنية والعسكرية.
هذا الدور الاجتماعي للدولة سانده دورٌ مكمّلٌ وفاعل للمجتمع المدني التونسي الذي تنامى في ظل التحولات الاقتصادية والاجتماعية الناجمة عن التقدّم التكنولوجي، والانتشار الواسع لشبكات الإنترنت والاتصالات وشبكات التواصل الاجتماعي، ما جعل النسيج الجمعيَاتي التونسي (حوالي 23 ألف جمعية ومنظمة) طرفا مساهما في بناء المجتمع الجديد، ومساندا دور الدولة، وركنا مهما في المنظومة الاجتماعية الشاملة، لما يتميّز به من قرب ومرونة ونجاعة ومبادرة، ولما بعثه في التونسيين من أريحية وطمأنينة، هوّنت عليهم هذه الصعوبات، ودعمت ثقتهم واعتزازهم بوطنهم، فقد شملت تدخلات المجتمع المدني ومدّه التضامني كل الفئات، وبرز دور الشباب المبدع في كل المجالات، وستكون هذه المبادرات الشبابية محل اهتمام ورعاية رسمية بعد الأزمة التي كشفت، أيضا، عن قيم مواطنية مهمة للإدارة التونسية وكوادرها، أبداها "مناضلو" القطاع الصحي الذين شكّلوا جنود الصف الأول في الحرب على كورونا، على الرغم من التضحيات وقلة الإمكانات. ولعل الدولة التونسية ستتجه إلى سياسات جديدة لاستقطاب الكفاءات، والحد من نزيف هجرتها، ودعم البحث العلمي.
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
محمد أحمد القابسي

كاتب وأكاديمي وشاعر تونسي

محمد أحمد القابسي