أحتفي اليوم بالتفاهة

أحتفي اليوم بالتفاهة

04 ابريل 2020

(صفوان داحول)

+ الخط -
أعترف بأنني لا أفعل شيئا مهما في هذه العزلة الكونية المفروضة على البشرية كلها. نادرا ما أقرأ، نادرا ما أشاهد فيلما مهما، أبحث في قنوات الأفلام عن أكثرها تفاهة وتسلية وتسطيحا للعقل. لا أريد لعقلي أن ينشغل بغير التفكير في محاولات النجاة من الوقوع فريسة الفيروس والمرض. لا أملك ترف مرض كهذا يحتاج إلى حجر وعزل كامل، ولمن يدير لي شؤون الحياة: حاجاتي، طعامي، متابعة وضعي، خصوصا أن ما يُحكى عن أكثر الناس وقوعا في مصيدة الفيروس متحقق بي: تجاوزت الخمسين بسنوات، زمرة دمي A، لدي أمراض سابقة في القلب والشرايين والضغط. نفسيا لا أعترف بكل ما سبق، لكنني سأكذب إن قلت إنني لست خائفة وقلقة. وسأكذب لو قلت إنني نجوت من نوبات الهلع، أو إنني بدأت أعتاد الأمر، فأنا لم أنس، حتى اللحظة، ما مرّ بي، حين تعرّضت لأزمةٍ قلبيةٍ قبل ما يزيد عن ثلاث سنوات، ثم اضطررت إلى إجراء عملية قلب مفتوح سريعة! على الرغم من كل ما أحاطني به أصدقائي من الاهتمام والرعاية، إلا أنني، مع كل لحظة ألم، كانت تنتابني مشاعر غريبة، يزيدها توهجا إحساسٌ أنني لست في بلدي، وليس لدي أحد من عائلتي، فيما لو حصلت لي مضاعفاتٌ غير محسوبة، ما بالكم إذا في حالة مثل حالتنا اليوم، حيث يغلق الجميع أبواب بيوتهم على أنفسهم خشية العدوى، مبتعدين حتى عن أقرب البشر إليهم. 
أقرأ نصائح بعضهم على صفحات "فيسبوك" بأهمية القراءة والكتابة، وبأن هذه العزلة المرضية الكونية فرصة نادرة لإنجاز ما تأخّرنا في إنجازه! لا بأس، ربما يجدون في القراءة أو الكتابة، أو أي فن آخر، ملجأ مهما للهروب من الخوف، ومن الانتظار الطويل لنهايةٍ لا نعرف شكلها ولا زمنها، ولكن ما يلفتني أنها نصائح يقينية، وكـأن أصحابها يملكون الحقيقة الكاملة عما يجب أن يكون، وهم لا يختلفون في ذلك، برأيي، عمّن يدعوننا إلى الاكتفاء بالعودة إلى الله للتخلص من الفيروس، أو عن الذين يقدّمون لنا معلومات طبية عن طرق الوقاية. كلهم متيقنون مما يقولون، وكلهم يعتقد أننا جاهلون وقاصرون، ولا نعرف أين مكمن الخطورة وكيف نتجنبه، كلهم يظن أنه لولا ما يقدّمونه لنا من معلومات ونصائح على صفحاتهم الشخصية لكنا نغرق في جاهليتنا، ولم ندخل نعمة اكتشاف ما يحيط بهذا الوباء.
أريد، شخصيا، في هذه المرحلة، أن أحتفي بالتافه من الأشياء، أو بما يعتقده بعضهم تافها، بأن أستيقظ صباحا، أشرب قهوتي بهدوء، ثم أنظف بيتي كل يوم، كما لو أنه مهجور منذ أشهر، أريد أن أستمتع بطهي ما أحبه من الطعام، وأستمتع بالأكل كما لو أنها المرّة الأخيرة التي آكل فيها طعامي المفضل، أريد أن أستمتع "بقزقزة اللب"، على رأي إخوتنا المصريين، وأنا أشاهد فيلما، مستلقية على الكنبة بجانبي قطتي، أن أشتاق للرجل الذي أحبه، وأخبره بذلك، وأنا أعرف أن شوقي له بلا طائل، أريد أن أحتفي بهذه الأشياء التافهة جدا التي وحدها تليق بتفاهة ما نعيشه، وما أوصلتنا إليه تفاهة الحروب واستعراض القوة ومحاولات السيطرة الاقتصادية على العالم، والتفوق العسكري، وصراعات مافيات السياسة والمال والدين والسلاح.
ألم يكن ميلان كونديرا محقّا حين قال في "حفلة التفاهة": "التفاهة يا صديقي هي جوهر الوجود، إنها معنا على الدوام وفي كل مكان، إنها حاضرةٌ حتى في المكان الذي لا يرغب أحدٌ في رؤيتها فيه، في المعارك الدامية، في الفظائع، في أسوأ المصائب"! هل من تفاهةٍ يمكن أن تحصل للبشرية أكثر من أن تكون محكومةً من موتورين وعنصريين ومجرمين ومجانين ومهووسين بالعظَمة؟ أليس كل ما يحدث في حياتنا نتيجة وجود نظام عالمي كهذا؟ هذا المقدار من التفاهة الذي يسيطر على البشرية كلها، ويسيّرها على هواه، كان سيحتاج ما يشبهه ليجعلنا ننتبه إلى ما يحدث، لو أن نيزكا عظيما ارتطم بالأرض، وسبّب لها الكوارث، لما انتبه أحد إلى تفاهة ما نحن فيه. البشرية لا تستدعي الأمور العظيمة على ما يبدو، هي تحتاج ما يشبه حالها، تحتاج هذا الفيروس الذي لا يعني شيئا، فيروس في منتهى التفاهة يضعنا جميعا في دائرة الخطر والخوف، ويجعلنا نستعيد امتداد يومنا بكل ما فيه، بعد أن كان وقتنا يمرّ كلمح البصر، ونحن نتسابق لتحقيق إنجازاتٍ يمكن لفيروس تافه أن يمحوها من الوجود.

دلالات

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.