هل تنبأ ابن خلدون بزوال إسرائيل؟

هل تنبأ ابن خلدون بزوال إسرائيل؟

30 ابريل 2020
+ الخط -
(1)
كل دولة تنتقل بين خمسة أطوار: الظفر، والانفراد بالمجد، ثم الفراغ والدعة، ثم طور القنوع والمسالمة، ثم الإسراف والتبذير. هكذا تحدّث ابن خلدون في مقدمته الشهيرة عن نشوء الدول وانتهائها. وهو يربط الأطوار الخمسة بثلاثة أجيال: الأول يقوم بعملية البناء والعناية، والثاني يسير على خطا الأول من التقليد وعدم الحيد، أما الجيل الأخير فيمكن تسميته الجيل الهادم، "فالدولة لها أعمار طبيعية كما الأشخاص"، فبعد البناء والعرق في زمن الجيل الأول، تتحوّل الدولة إلى الاستقرار والهدوء على يد الجيل الثاني، وتبدأ المنشآت الحضارية والعمرانية بالبزوغ، لكن في هذه المرحلة تنزلق الدولة إلى الاستبداد وحكم الفرد. فبعدما كان الجميع يشترك في الحكم، بشكل أو بآخر، في الجيل الأول المؤسس للدول والحضارات، تنتقل إلى "انفراد الواحد وكسل الباقين عن السعي فيه، ومن عزّ الاستطالة إلى ذل الاستكانة، فتنكسر سورة العصبية بعض الشيء، وتؤنس منهم المهانة والخضوع". وكما تكون "العصبية" مسؤولة عن القيام والديمومة، فإنها أيضا السبب الأبرز للسقوط والانحدار، ويعزو ابن خلدون الضعف والسقوط إلى عدة عوامل أهمها الترف والانغماس في الملذات.
وحسب ابن خلدون، فإن الجيل الأخير، أو الثالث الذي تسقط في عهده الدول وتنهار الحضارات، هو جيل النخبة الحاكمة التي تحرص، في سلوكها السياسي والأخلاقي، على الطمع والترف، وينتقل الشعور بالمسؤولية الاجتماعية والسياسية والعسكرية والاقتصادية التي تقلّدوها منذ زمن التأسيس إلى شعور آخر، إلى "نخبة" تدوس الجميع من أجل مصالحها الخاصة وترفها الزائد ورفاهيتها وحدها دون غيرها.
(2)
ومن غريب الأحوال أن نجد توظيفا فريدا للنظرية الخلدونية لدى كاتبين إسرائيليين، نشرا مقالة 
في صحيفة معاريف العبرية يوم 24/3/2020، يسقطان فيه النظرية (ربما مصادفة) على واقع الحال في "إسرائيل"، ويتحدثان بما يشبه النبوءة عن مستقبل كيانهم! هما مئير بن شاحر واللواء احتياط النائب عوزي دايان، والمقال بعنوان: "في العقد الثامن". يستهلانه بأن دولا كثيرة في العقد الثامن من حياتها شهدت عهدا محملا بالمخاطر. الدولتان اللتان كانتا لشعب إسرائيل وصلتا إلى نهايتيهما في العقد الثامن، المملكة الموحدة لداود وسليمان انشقت بعد نحو 70 سنة ومملكة الحشمونائيين تفككت بعد نحو 80 سنة. في الحالتين، فقد الشعب اليهودي السيادة، ليس بسبب عدو خارجي أو أزمة اقتصادية، بل لأن قوى التفكك والتمزق تغلبت على الاستعداد للحفاظ على ما هو موجود. في العصر الجديد، يكفي أن نذكر الحرب الأهلية في الولايات المتحدة، تفكك الاتحاد السوفياتي والربيع العربي. يدور الحديث عن دول مختلفة، ولكن إشارة التحذير واضحة، العقد الثامن من شأنه أن يكون فتاكا.
ثم يتساءلان: لماذا العقد الثامن بالذات؟ الجواب أنه في هذه اللحظة يدخل إلى الساحة الجيل الثالث، زعماء الدولة والمجتمع اليوم هم الأبناء والأحفاد للآباء المؤسسين الذين عرفوا كيف يعقدون التسويات القيمية من أجل وجود الدولة، مثل اتفاق التعويضات والوضع الراهن في شؤون الدين والدولة. وتعرّضت هذه التسويات إلى وابل من الاحتقار من جانب البوصلة الأخلاقية – الحركية للتيارات المختلفة، ولكن هي التي سمحت باستمرار الوجود المشترك. بالنسبة للجيل الثالث، الدولة حقيقة قائمة، وهم يأخذونها أمرا مسلما به، ولا يخافون على وجودها.
ويبدو أن أزمة فيروس كورونا "أنضجت" نظرية "العقد الثامن"، فقد زحف بهدوء تام وحش كورونا، كما يقولان، فحتى قبل نحو شهر، كان يمكن، على الرغم من أزمة العقد الثامن، الأمل بيقين عظيم في أن الزمن والديمقراطية سيفعلان فعلهما والدولة والمجتمع سينجحان في التغلب على الأزمة السياسية من خلال الحسم في الانتخابات. هذا لم يحصل، ووباء كورونا فاقم الوضع أكثر بكثير. لقد درج على التفكير بأنه لا يوجد ما يمكنه أن يرصّ الصفوف أكثر من عدو على الأبواب، ولكن عندما يكون العدو فيروسا غير مرئي وصامتا، يعتقد بعض من الناس أنه يمكننا أن نسمح لأنفسنا بمواصلة العيش مع الكراهيات القديمة والطيبة. وهكذا، في غضون وقت قصير تسبب الخوف، انعدام اليقين وانعدام الحسم السياسي بالتطرّف في مواقف القيادات والجمهور. أخو الأمس صار غريبا، والعدو من أول أمس أصبح الشيطان ذاته.
الفترة القريبة المقبلة لا تسمح بالأوهام، فكورونا يهدد الأساسين اللذين درجنا على الهزء من الجد 
والجدّة اللذين كرراهما بلا انقطاع، الصحة والرزق. واليوم نفهم جميعنا أن أزمة كورونا ستستمر وستتسبب بأزمة اقتصادية وبتعميق الاستقطاب الاجتماعي إلى درجة الخطر الحقيقي على مواصلة وجود الدولة مثلما نعرفها. "في مرحلة معينة سيكون لقاح، بل وربما علاج للفيروس، ولكن ليس للتصدّعات في المجتمع الإسرائيلي".. هكذا يختم الكاتبان مقالهما، الذي بدا وكأنه إعلان نعي خجول واستباقي لدولة الاحتلال.
(3)
قبل سنتين، قال نتنياهو إن "وجودنا ليس بديهياً"، وإنه سيبذل كل ما في وسعه للدفاع عن الدولة. وأضاف إن مملكة الحشمونائيم نجت فقط 80 عاما، وأنه يعمل على ضمان أن "إسرائيل" سوف تنجح هذه المرة والوصول إلى مائة سنة. .. ومع هذا، إذا عدنا إلى سجل سلوك هذا الذي يبدي حرصه على مشروع "إسرائيل"، لوجدنا أنه هو من عناه ابن خلدون في كل كلمة في مستهل هذه الكلمات، ولعل هذا ما دفع الكاتبين في "معاريف" إلى قول ما قالا. بقيت كلمة.. للكاتب الفلسطيني غازي أبو فرحة كتاب في هذا الموضوع، وهو "تعاقب الأجيال"، حلل فيه تواريخ أكثر من عشرين أمة (بما فيها الدولة العثمانية وبريطانيا وفرنسا وأميركا)، فوجد أن الأمم كانت تنهار كل 70 إلى 80 عاما (عمر الإنسان)، وأن أميركا في تاريخها القصير منذ الاستقلال عام 1783 انهارت مرتين: الأولى عام 1865 عندما غرقت في الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب. والثانية عام 1929 عندما صفر الدولار (وصل إلى الصفر) وأغلقت البنوك الأميركية أبوابها عامين، ورجع الأميركيون إلى نظام المقايضة البدائي في البيع والشراء، واستمرّت البطالة والجوع سبع سنين، ولم تخرج من حالة الموت السريري إلا بعد أن فرضت على نفسها العزلة والاعتماد على الذات.
سبب انهيار الأمم، كما ترى نظرية أبو فرحة، هو تعاقب الأجيال في دورات كل دورة بعمر الإنسان الهرمي، وليس الإحصائي، يتخلل الدورة جيلان: الجيل الباني ويستمر نصف الدورة (من 35 إلى 40 عاما) ويبدأ من الصفر ويصعد إلى القمة، والجيل المستهلك أو الطفيلي، ويستمر كالجيل السابق، ويبدأ من القمة وينحدر إلى الصفر، وينهار بفعل حالة الاستهلاك والكسل والاسترخاء واللامبالاة، والتي هي من صفات الجيل المستهلك.
لا أريد في الختام أن أقع في فخ تحديد سنة معينة لانتهاء "إسرائيل" كما فعل غيري، ولكن المؤكد أن ثمّة أكثر من مؤشر على قرب نهاية هذا النبت الشيطاني الهجين، حتى وإن بدا وكأنه في أوج قوته، وفي أوج خضوع أعراب له، وانبطاحهم على أعتابه، فهم زائلون مثله، لأن وجودهم مرتبط بوجوده.