ماذا بقي من لينين؟

ماذا بقي من لينين؟

29 ابريل 2020
+ الخط -
في عصر كورونا، فقدت أمجاد الماضي جاذبيتها وسحرها، وتداعت عظمة قادة ومؤسسين ورواد أمسكوا زمناً بيد التاريخ، في أكثر من مكان في هذا الكوكب، ولم تعد كرنفالات الاحتفاء والاحتفال بالأحداث التي كانت "كبيرة" في تصنيف ما قبل كورونا سوى مجرّد خرائط، لا لون لها ولا طعم لدول وأقوام وثورات وأيديولوجيات ووجوه سادت ثم بادت، وقد أصبح النبش في خطوط الطول والعرض فيها أشبه بتقليعة بلا لمعان ولا بريق! 
في هذا السياق، جاءت الاحتفالية الباهتة في موسكو في ذكرى الميلاد المئة والخمسين لمطوّر النظرية الماركسية ومؤسّس الاتحاد السوفييتي الرفيق فلاديمير إليتش أوليانوف لينين الذي دخل التاريخ سياسياً ومنظّراً وحاكماً، وقبل ذلك وبعده، ثائراً ومقاوماً ومتمرّداً إلى أن قضى عليه ضربٌ من الجينات الموروثة، وهو في خمسينيات العمر، وإن كان هناك من يعتقد أن خليفته في الحزب والدولة، جوزيف ستالين، قد يكون هو الذي دبّر مقتله إثر خلافهما على موضوعة تصدير الثورة أو ترسيخها في بلد واحد، وكذا إلى ما تردّد عن توصية منسوبة إلى لينين، ينصح فيها رفاقه بإزاحة ستالين، و"اختيار أحد مكانه أكثر صبراً، وأوفر أدباً، وأقل تقلباً"!
احتفالية هذا العام التي خطط لها الشيوعيون، لتكون حدثاً ضخماً يعيد التذكير بلينين، ويبشّر بعودة مفترضة لتجربته، داهمتها جائحة كورونا، لتفرض اختصارها إلى ما يشبه فعالية "بروتوكولية" حضرها حشدٌ صغير من مناصري الحزب الشيوعي، وتخلّف عنها آخرون. وقد حظيت الذكرى بقبضة بياناتٍ خشبيةٍ من أحزاب شيوعية "شقيقة" في بلدان عدة، من بينها الحزب الشيوعي 
العراقي الذي ما يزال يواجه تهمة الخروج على الإرث الماركسي - اللينيني عبر تماهيه مع سلطة الاحتلال الأميركي، ودخوله في حكوماته التي نصبها هذا الاحتلال بعد الغزو، كما أعادت إلى الأذهان دعوة بعض المناهضين للشيوعية لنقل رفاة الزعيم الشيوعي الراحل إلى مكان آخر بعيدا عن الساحة الحمراء، ضرباً من ضروب "اجتثاث" رموز النظام السابق الذي دفعت به إلى الانهيار وصفة إعادة البناء (البروسترويكا) التي أطلقها الشيوعي الأخير، ميخائيل غورباتشوف.
وقد ظلّت ذكرى ولادة الزعيم الضاحك فلاديمير لينين، كما وصفه مرّة صديقه الروائي مكسيم غوركي، محلّ تقديس لدى الجيل العجوز من الروس الذين سمعوا من آبائهم عن عظمة "الاتحاد السوفييتي" الذي يعتبر لينين المؤسّس له، والذين يعتقدون، مثل آخرين غيرهم في عالم اليوم، أنه ما يزال للأيديولوجيا الماركسية - اللينينية مكان متقدّم، وقد وضعوا عيونهم على تجربة الصين، وإن اعتمدت خروجاً آمناً من النظرية الأصل، وفكّكت فصولها بما يتفق وصنع نظام جديد يقترب من نموذج اقتصاد السوق، وكذلك على تجربة "اليسار الجديد" التي نمت وترعرعت في القارّة اللاتينية عبر توليفةٍ من شعاراتٍ وسياساتٍ فيها من "الشعبوية" والهشاشة أكثر من الوضوح والفعل، وانكفأت بغياب أبرز قياداتها، ولضعف قدرة الدعاة الجدد على توظيف حراك اجتماعي يدعمها. أما الأجيال الجديدة الشابة في روسيا نفسها وفي العالم، فلم تصل يدها إلى أبعد من كرّاسات صغيرة، أو ملخّصات بسيطة للتراث الماركسي، وبعضهم لم يجهد نفسه حتى بالتعرّف إلى رواد الاشتراكية الأول. ونظرة عريضة إلى واقع الحركات والأحزاب الشيوعية في العالم تشي بما تعانيه من تراجعاتٍ وتناقضاتٍ جعلتها تفتقد جماهيرها التي اكتشفت، في آخر المطاف، أن الحياة لا تُقاس بما تقوله الشعارات الثورية، وأن النظرية لا تكون خضراء دائماً!
و"لأن الزمن لا ينتظر"، كما يقول لينين، فقد عمل الشيوعيون الروس على محاولة النفاذ إلى الفضاء الاجتماعي والسياسي من جديد، لكنهم أخفقوا في تحقيق ما يريدونه أكثر من مرّة، إذ حاول سكرتير الحزب، غينادي زوغانوف، الوصول إلى الكرملين وإعادة البلاد إلى النمط الشيوعي أربع مرات ولكنه فشل. وفي الانتخابات الرئاسية الأخيرة (2018)، وقف الحزب وراء مرشّح غير شيوعي، هو رجل الأعمال المليونير بافيل غرودينين، المدافع عن اقتصاد السوق، لاستقطاب الفئات الشابة التي انفضّت عن الحزب، لكنه خرج من اللعبة بخفّي حنين، وإن عزا ذلك إلى "انتهاكات غير مسبوقة جعلت العملية الانتخابية الأقذر في العقدين الأخيرين"!
يبقى في النهاية اسم الرفيق فلاديمير إليتش أوليانوف لينين، بعد 150 عاماً على ولادته، مضيئاً، ولكن في الساحة الحمراء وحدها، وتبقى رفاته تستقبل أفراداً يقرأون السلام على عهدٍ لم تبق منه في الذاكرة سوى خطوط معتمة.
583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"