الرجل الذي احتلّ الرصيف

الرجل الذي احتلّ الرصيف

29 ابريل 2020
+ الخط -
التهمة المنسوبة لي، والتي تمَّ تحريرُها في محضر تحقيق شرطي وحيد، أنني احتللت الرصيف، ولكنّ أحدًا لم يكتب، في محضر ما، أنني كنت معتقلًا في بيتي، ثلاثا وأربعين سنة، بيتي الذي يمرُّ عنه الجميع، ولا يلمحون بابه الذي هو فتحة صغيرة في جدار، وحين أدخل منها أضطر إلى أن أحني قامتي، ولم يتوقّف أمام هذه الفتحة أحد، لا لزيارة، ولا حتى لتقديم مساعدة، مثل التي تُقَدَّم للفقراء في المناسبات، فالجميع يمرُّ عن هذه الفتحة، ولا يفكّر بأنها تفضي إلى مكانٍ يعيش فيه إنسان.
شهادة جامعية باهتة معلَّقة على جدار، على وشك أن ينهار. أما إطار الشهادة فتكسّرت إحدى حوافِّه الأربع، وتدلَّت منه الشهادةُ المُصْفَرَّةُ اللون، والتي أصبحت قراءة ما كُتب فوقها صعبة، ولكنها لا تزال معلَّقة؛ لعلها تذكِّرني بأنني دخلتُ المدرسة، ثم الجامعة، وكان من الممكن أن أعمل في وظيفة ما، ولكن ذلك لم يحدُث، حتى تُوفي والداي بفارق أشهر قليلة، وأصبحت وحيدًا، بالفعل، بعد أن كنت وحيدًا بلا إخوة.
حدث أن اختفى الناس، منذ أكثر من شهر، من الشوارع، وعمَّ الصمت والهدوء من حولي، ولم أَعُدْ أرى جاري يصحب زوجته الحسناء بجواره في عربته الخاصة، ثم يغيبان إلى عملهما بالتأكيد، والآن أصبحت أراهما، وأنا أحتلُّ الرصيف، وهما يتشاجران طوال الوقت، حيث شرفتهما واسعة النوافذ ومفتوحة، وصوتاهما يصلان إلى مسامعي، وكنت أحسبهما يعيشان في سعادةٍ بالغة، وتمنَّيتُ لو كان لي زوجة، ولكنِّي حتى لم أفكِّر بأن أتزوج، فماذا أصنع مع امرأةٍ في بيتٍ بلا باب، البيت الذي لا يرى بابه العالم بالتأكيد، فهو كالكتاب الذي يُقرأ من عنوانه، فبيتي لا يصلح لحياةِ آدمي، وتشاركني فيه الحشرات والجرذان الصغيرة التي اعتدتُها.
اليوم قرَّرتُ أن أحتلَّ الرصيف، حين احتلَّ كلُّ الناس حولي بيوتهم، أجلسُ على الرصيف، طوال الوقت، حتى ظنَّنِي الجيران أحد عُمَّال البلدية، أو مندوبًا من الشرطة السِّرية؛ لمراقبة حركتهم، والإبلاغ عمَّن يخالف الأوامر، ولكني قرَّرت أن أخرج إلى الرصيف، حين التزم الجميع بيوتهم.
كالعادة، شعرت بأنني مميزٌ عنهم، وبدأت أقضي وقتي جالسًا القرفصاء حينًا، أو مفرود الساقين حينًا آخر، ولكنِّي لم أتوقف عن مراقبتهم ومتابعة تحرُّكاتهم، خصوصًا جاري الذي اكتشفتُ توحُّشَه مع زوجته، فهو يضربها حينًا، وقد ركلها في بطنها، وسقطت أرضًا ذات مرّة. ولكن في كلِّ مرة لم تكن تخرج من البيت، أو تطلب نجدة، ثم يتصالحان لساعات، وسرعان ما تعود المشاجرات، ولا أدري كيف تقبل الصلح؟ هل هي خائفة من الخروج، مثلًا؟ ليتها تفعل، وتأتي للجلوس معي على الرصيف. ضحكتُ من هذا الخاطر، وأفقتُ من حلمي، وأنا أرى جارتي البدينة تحمل عدَّة أكياس من الخبز، وتضعها بجوار حاوية القُمامة، ثم تعود سريعًا إلى بيتها، وتدلف مسرعةً، حيث ينتظرها زوجها الذي يشبه عود القصب، فأسرعتُ بدوري نحو الأكياس، قبل أن تقترب منها القطط، وحملتها نحو فتحة الجدار التي لا يراها أحد، طبعًا تعرفون أنني أقصد بها باب بيتي.
ربما تساءلتم: من أين أعيش؟ وماذا كنتُ أفعل كلَّ هذه السنين؟ كنتُ أعمل عتَّالًا في الميناء، أَخرج فجرًا، وأعود مع منتصف الليل، ولذلك لا يعرفني الجيران، ولكن عملي توقَّف، منذ حلَّ هذا الوباء؛ فالتزمتُ البيت، حتى عضَّني الجوع، فقرَّرتُ أن أحتلَّ الرصيف، وأتجوَّل في الشارع، على راحتي. وفي المرَّة التي اقتادتني الدورية إلى مركز الشرطة، بتهمة احتلال الرصيف، اعتقدوا أنني أبكم، ونظراتي التائهة أوحت لهم بأنني مخبول، فأطلقوا سراحي، والحقيقة أنني قد نسيتُ الكلام، فأنا لا أكلِّم أحدًا، ولا أحد يكلِّمني، وهكذا طاب لي المُقام على الرصيف، فيما يلتزم الناس بيوتهم مرغمين، فأراقبهم مدار الساعة، وأشعر بسعادةٍ بالغة، ولا أخفي عليكم سرًّا؛ أنني أنتظر أن تثور الزوجة الحسناء على زوجها، وتخرج من البيت، وتجلس إلى جواري على الرصيف.

دلالات

avata
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.