نخشى على كورونا من الانحسار

نخشى على كورونا من الانحسار

28 ابريل 2020
+ الخط -
نتابعُ أخبارَ كورونا يومًا بيوم. أعدادُ المصابين، من صحّوا منهم ومن قضوا، ومن ما زالوا محجورين. نقفزُ من قارّةٍ إلى أخرى، من بلادٍ إلى ثانية، ونستخبر عن أهلها وحالها وإمكاناتها وكيفية تعاطيها مع هذه الجائحة التي اجتاحت العالمَ كلَّه ذات أمسٍ قريب. نرى إلى الكرة الأرضية وكأن ثمّة مَنْ أوقفها عن الدّوران، من أطفأ محرّكَها وضوضاءَها وأدخلها فجأةً في صورةٍ حوّلتنا جميعًا إلى أهل ترقّبٍ وسُكون. تتمدّد الجرثومةُ اللّعينة في كلّ الاتجاهات، تتفشّى كالفطر السَّام حتى لتشكّلَ غشاءً عملاقًا يلفّ المعمورة، فيما نخفق داخلَها خلايا متوحّدة تائهة لا طاقة لها على التوالد أو الاندماج.
يترقّب العالمُ كلُّه انتهاءَ الجائحة وتراجع الفيروس، آملا استئناف حياته المؤجّلة أخيرًا، نشاطَه، أعمالَه، سيرَه القديم. يقذفُ العالمُ نفسَه إلى الأمام، فيرى ذاتَه فرحًا بخروجه سالمًا من هذه الكارثة أيضًا، للمرّة المئة، للمرّة الألف. يتفكّر في ما عساها ستكون عواقب انتهاء الأزمة، وهل فعلا ستكون هناك بوادرُ تغييرٍ نحو عالمٍ أفضل، أقلّ استهلاكًا، جشعًا، سوء تقدير؟ وإذ يلاحظ ما خلفته هذه العاصفة الكونيّة من أضرار، تراه يضع خططًا مستقبليّة تعيدُ الأمورَ إلى نصابها، وتقيه شرّ احتمال عودة الفيروس.
يحصلُ هذا في العالم بأجمعه، إلّا في لبنان، فنحن هنا بتنا نخشى انحسارَ كورونا كما يخشى آخرون تمدّدَ الوباء. محجورين في جحورنا، فرحنا بدايةً بالعدد القليل ممّن أصيب منّا، أو أُدخل المشافي لسوء حالته، أو مات. قلنا إنّ الربَّ سبحانه يضرب من جهةٍ، ويشفع من الجهة الأخرى، فهو مدركٌ كم أننا عزّل ويتامى في مواجهة الوباء. ثم أنّه ولا بدّ قد رأف بنا بعد طول عذاب وحروب ومعاناة، أو أننا ربما، على ما يبدو، لكثرة سوء أوضاعنا تآلفنا مع جحافل الجراثيم والميكروبات التي تجتاحنا منذ أجلٍ بعيد. أجل، نبتسم راضين، قبل أن يرعبنا التفكيرُ في الآتي العظيم، لأنّ كل آتٍ يظهر أعظمَ ممّا سبق ومرّ علينا، وفي هذا بتنا خبراءَ وعالمين.
جائحةُ كورونا تتراجع، ونحن نرتعد خوفًا، فثلجُها الذَّائبُ سيكشف عوراتِنا الكثيرة، قاذفًا بنا مثل كرات نارٍ إلى الجحيم. بعد انحسار كورونا، سنكتشف مجدّدًا، نحن اللبنانيين، كم بتنا عراةً وكم نحن يتامى ومعوزون. جاءت كورونا وقضت على ما تبقّى فينا من جذوة تمرّد وانتفاض، وسلّمت زمامنا من جديد إلى جيوش العتمة ومرتزقة الظلام، فنحن ما أن دخلنا بيوتنا وأقفلنا الأبواب، حتى أفلتوا عسسَهم وأحرقوا خيمَنا في ساحة الحرية، وعادوا يتشدّقون ويتفوّهون ويعظون ويتحاصصون ويتضاربون ويغمروننا بما يلقونه علينا من قيء الكلام وغوطه.
كثرٌ فقدوا وظائفَهم. كثرٌ أقفلوا أبوابَ محلّاتِهم. كثرٌ أعلنوا إفلاسَهم. كثرٌ أفادوا بكساد مواسمِهم. كثرٌ سقطوا دون خطّ الفقر بكثير. كثرٌ يجوعون. كثرٌ يدورون في أقفاصهم كحيواناتٍ جريحة، فيما وحوشُ السّلطة والدولار والسّرقة والجشع منفلتين يعيثون خرابًا فوق خراب. لا لغة الأخلاق ولا لغة السياسة ولا لغة الاجتماع ولا لغة الاقتصاد ولا لغة الضّاد تنفع فيهم. صُمٌّ عن آلامنا، صمٌّ عن أيّ حسٍّ بشريّ، متخشّبو الضمائر، جَشِعو الأنياب، متوحشّون، مصّاصو دماء. أجل، هكذا نحن نراهم جميعا، دونما استثناء، مجموعة بهائم مفترسة.. لا، ليسوا حتى بهائم، فتلك تشبع متى أكلت، وتكفّ عن الأذية متى اصطادت.
أجل، نحن في لبنان نخشى انحسارَ كورونا، وعودتَنا إلى حلبة الصّراع، إلى قلبِ العرينِ حيث الأُسُودُ التي لا يُسَدُّ جوعُها. نخشى ونتمنّى أن يوضعَ حدٌّ لهذا العذابِ الطّويل. إنما، قد يحدُثُ أن نُسِرَّ في نفوسنا أنّنا سنكون، هذي المرّة، على استعداد، بالمرصاد، فنعضّ في لحمِهم، ونحرقُ بيوتَهم، ونُعلنُها ثورةَ ثأرٍ وانتقام..
بعبارةٍ أخرى يُمليها العقلُ الذي تبقّى فينا، فلْننسحبْ جميعًا من أحزابِهم الموْبُوءة، ولْنضعهم ولو لمرّةٍ وَحيدةٍ، في مواجهة محكمة الأرض والسماء.
نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"