مانديلا السعودية

مانديلا السعودية

28 ابريل 2020

عبدالله الحامد ..أسس أول جمعية لحقوق الإنسان في السعودية

+ الخط -
"من يملك العملة يمسك بالوجهين".. وجه السلطوي الذي يُسخّر أدوات المعرفة لخدمة الدولة، سواء كان شيخا، أو تنويريا حكوميا، ووجه الغاضب الذي يملأ الأرض كراهيةً وسخطًا وقتلًا وتدميرا تحت لافتات الجهاد، فتستخدمه الدولة وقت الحاجة إليه، ثم تنفض يدها حين تنتهي منه، وتتخذه عدوا، تبرّر وجودها بوجوده، وتشرعن استمرارها بالقضاء عليه، وهو يخدمها، في الحالتين، رغم أنفه، فالدولة ذلك الكائن الأخطبوط الذي يملك أن يختار أنصاره وأعداءه، ويوظفهما معًا.
عبد الله الحامد، الصامد، هل تعرفه؟ ليس ذنبك أنك لا تعرفه، فلا هو عملة يملكها الحاكم، ولا هو سلعة يشتريها، هو رجلٌ، لديه مشروعٌ حقيقي للحياة، مناضل، ومصلح، وأكاديمي، سعودي، قضى حياته يبحث عن الحرية لبلاده، ويطالب بها، لتقتله! لن تجده بطلًا في مسلسل رمضاني باهت، كما لن تجد صورته على حسابات فيسبوك وتويتر التي تحتفي بعمر عبدالرحمن، وأسامة بن لادن، وهشام عشماوي. لم يشرب الحامد من نهر الجنون، بل أراد الطريق الذي يحفره نهرٌ آخر، فطرة الله التي فطر الناس عليها، الحرية.
كان عبدالله الحامد من نجد، عصبية الدولة، أهل الحظوة والمناصب الحكومية، ليس لديه ما يدفعه إلى معارضة السلطة، بل إلى مهادنتها، وتكديس الملايين من ورائها، مثلما كدّسها غيره من شيوخ السلطان وولده، فصلوه من الجامعة، وانقطع راتبه، عاش بسيطا، صاحب أفكار وهموم، رصيده الحقيقي في خزانة المستقبل.
ألف عبدالله الحامد خمسة عشر مؤلفا عن الحريات وحقوق الإنسان، وأسس أول جمعية مدنية تدافع عن حقوق الإنسان في السعودية، وتتبنّى أجندة الإصلاح السياسي، وهي الجمعية السعودية للحقوق المدنية والسياسية (حسم)، أغلقتها السلطات، واعتقلت مؤسسيها، وهو أولهم، بطبيعة الحال. كان عبد الله الحامد صاحب أول مطالبة رسمية بالملكية الدستورية، يملك الحاكم ولا يحكم، المعارضة السعودية قبل الحامد لم تتجاوز "النصيحة"، الحامد تجاوزها إلى الحلم، كان حالما، لكنه كان عاقلا، سجنوه سبع مرات، نهبوا أيامه، ولم يدعُ إلى العنف، مرّة، بل إلى العمل السياسي السلمي، وفصل السلطات، واستقلال القضاء، والقضاء على الفساد، والإصلاح التدريجي، والانتقال من حكم الفرد إلى المشاركة، ثم إلى الملكية الدستورية، كان يستخدم من التعبيرات والمفردات ما يتناسب مع ثقافته، يغزل أفكاره من خامات بيئته وتراثه، لم يتعال على جمهوره، ولم يسبق خطوتهم، مثل نخب الثورة المتحمّسين في بلدانٍ كثيرة، دأب وصبر وإخلاص وتضحيات، بلا مقابل.. يخبرني أحد طلابه أنه كان يدخل عليه فيجده يحاضر في خمسة أشخاص، أو أقل، لا يكلّ، ولا يملّ، ولا ييأس، ولا يتغير، ولا يستجيب لإغراءات السلطة، ولا يُحبطه الانصراف عنه، ما دام على ما يراه حقا.
لم يكن الحامد مثقفا إسلاميا تقليديا، متحزّبا، مغلقا، يحشد الأنصار ويخوض معارك وهمية ضد العلمانيين والليبراليين، من أعداء الدين المتخيلين. كان مناضلا حقيقيا، أذكى من أن يُستخدم، وأكرم من أن يُستهلك، متصالحا مع دينه، عابرا للمذاهب والطوائف، متجاوزا التصنيف الأيديولوجي، رسولا من رسل الحرية، يحملها إلى الجميع، ويبشر بها الجميع، ويطالب بها للجميع، ويدفع ثمنها عن الجميع. أوراقه، ومشروعاته، وعرائضه كانت تحمل توقيعاتٍ ليساريين، وقوميين، وليبراليين، وشيعة، وسلفيين، ونشطاء وناشطات من كل التيارات والمذاهب... كان سعوديا، وتلك قضيته ومأساته!
حصل عبدالله الحامد على جائزة نوبل البديلة، وكان جمال خاشقجي يطالب له بالأصلية، ويبشّر به في دوائره، ويقول إنه لم ينل حقه، من الاحتفاء والتكريم، ويسمّيه مانديلا السعودية. مات جمال منشورا، ومات الحامد مسجونا، مريضا، محروما من العلاج أربعة أشهر، أصيب بالإغماء، في 9 إبريل/ نيسان الجاري، داخل زنزانته، تركوه أربع ساعات، مرميا، وفق شهادة الحقوقي السعودي، يحيى عسيري، ثم كبّلوه من يديه وقدميه، وهو غائبٌ عن الوعي، ونقلوه إلى العناية المركّزة، كانت حالته تستدعي إجراء عملية فورية، رفضوا، أهملوه عمدا، تركوه ينزف روحَه قطرة قطرة، إلى أن مات بالجلطة الدماغية، في أول أيام شهر رمضان... اقرأوه لتحيوه.