فلسطين والحل الواقعي

فلسطين والحل الواقعي

28 ابريل 2020
+ الخط -
تتعدّد الكلمات والتوصيفات التي تعبّر عن عمق الأزمة الفلسطينية، ومدى الخطر المحيط بقضيتها العادلة، فعلى الرغم من طول عمر القضية، إلا أنها مستعصية على الحل، بل وتمضي بتسارعٍ مقلق نحو مزيد من التعقيد والاستعصاء، بفعل السياسات الإجرامية اليومية التي ينتهجها الاحتلال وداعموه، سيما الولايات المتحدة الأميركية، وبفعل الوضع العربي الرثّ، ونتيجة تخبطات وانتهازية ولامبالاة ومزاودات وزبائنية الطبقة السياسية المسيطرة والمتحكّمة في المشهد الفلسطيني أينما كان وفي أي موقع كانت. الأمر الذي دفع كثيرين داخل الوطن وخارجه إلى نقد الوضع القائم، والبحث عن مخرج منه، داعين إلى معالجة أخطاء الماضي العملية والبرامجية والتنظيمية من أجل استعادة شعار وحدة الأرض والشعب والقضية، مع اختلافاتٍ كثيرة في الرؤى والطروحات والأهداف قريبة وبعيدة المدى. لكن وعلى الرغم من وضوح الغايات والمقاصد من غالبية هذه المحاولات، إلا أن هناك، على الضفة الأخرى، من رفضها أو تحفّظ عليها ونقدها، متذرّعا بخطورة المرحلة الراهنة وصعوبتها، ما يتطلب الابتعاد عن الشعارات الحماسية والأحلام الوردية المثالية لصالح حلول وخطوات سريعة واقعية وحاسمة، تعيد إلينا ما خسرناه على مدار السنوات الماضية. الأمر الذي يدفعنا أولاً إلى تفكيك هذا المنطق الناجم عن ارتباك وتشويش فكري وسياسي، وربما مصلحي، ومن ثم دراسة مدى واقعية حل الدولتين الذي يعوّل عليه الجسم السياسي الفلسطيني الرسمي على مستوياته كافة، كي نختم بقليل من التعمق في مقومات الحل الواقعي المنشود. 
أولاً: معايير النقد غير الواقعي
1 ـ بخصوص التحديات الراهنة: يمثل تسليط الضوء على التحدّيات الراهنة أحد أوجه النقد الشائعة لجميع البرامج الوطنية المقترحة بديلا عن النهج (والبرنامج) الحالي، والمتمثل في خيار "
أوسلو"، أو التفاوض من أجل تطبيق حل الدولتين، إذ يدّعي بعض الناقدين أن مجمل هذه الاقتراحات تترفع عن طرح رؤيتها واستراتيجيتها في مواجهة التحدّيات الراهنة، على الرغم من حجم خطرها الكبير والكارثي على الشعب والأرض والقضية الفلسطينية، كالتمدّد الاستيطاني ببناء مستوطنات جديدة أو توسع المستوطنات القائمة، خصوصا في المناطق التي يُفترض أن تُشيّد عليها دولة فلسطين المستقبلية وفق رؤية حل الدولتين. وكذلك بما يخصّ التصدّي لصفقة القرن، سيئة السمعة، التي أعلن أخيرا عن جميع بنودها، والتي نفّذ الاحتلال العديد منها بدعم أميركي قبل الإعلان عنها. وصولاً إلى الانقسام الفلسطيني، وملفي الأسرى والانتخابات، ومئات الملفات الأخرى ذات المدلولات والنتائج الكارثية، والتي تتطلب استراتيجية فلسطينية منظمة لمواجهتها على كل الصعد والمستويات، الرسمية منها والشعبية، وفي كل أماكن الوجود الفلسطيني كذلك.
قد يبدو هذا النقد، للوهلة الأولى، ذا وجاهة كبيرة، نظراً إلى فداحة المخاطر التي تعصف بمجمل القضية، حتى لا يعود هناك أي فائدة تذكر من أي برنامج بديل حالي أو مستقبلي حتى. غير أن التدقيق، ولو قليلا، في مجمل المبادرات المطروحة، ومن دون تحيز مسبق لأيٍّ منها، يوضح أنها بغالبيتها تنطلق من قراءة الواقع وإدراك حجم الكارثة المقبلين عليها، إن استمررنا على النهج المتبع اليوم، لذا فهي تنطلق من الواقع بكليته، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، ومن تداعيات النهج الاستسلامي والمؤامرات والمخططات الإجرامية الصهيونية والأميركية، مع الأخذ في الاعتبار التواطؤ الدولي، وربما الإقليمي. لذا يمكن القول، وبكل وضوح، إن جميع المبادرات والبرامج المقترحة ذات البعد الوطني تنطلق من هذه التحدّيات الوطنية، وتهدف إلى رسم استراتيجية وطنية جامعة قادرة على مقاومتها وإفشالها، كما تحذّر من دور البيئة السياسية الفلسطينية الرسمية في تمدّد الاحتلال وداعميه اليوم وغداً. وعليه، هي تدعو إلى تبنّي نهج نضالي مغاير، يستند إلى مسارين نضاليين شبه منفصلين، لكنهما مكملان بعضهما بعضا، يتمثل الأول في تعزيز سبل مواجهة جميع التحديات الراهنة بقوانا الشعبية، كتعزيز جهود حركة المقاطعة العالمية لإسرائيل (BDS)، ودعم المسيرات الشعبية السلمية؛ خصوصا في مواجهة الاستيطان وجدار الفصل العنصري، والضغط الشعبي من أجل وقف جميع أشكال التنسيق مع الاحتلال، وفي مقدمتها التنسيق الأمني، والضغط على الطبقة السياسية الفلسطينية المسيطرة حتى إنهاء الانقسام الجغرافي والاجتماعي.. إلخ. بينما يُعنى المسار الثاني بمعالجة الخلل الذاتي الذي سهل على الاحتلال وداعميه مهمة محاصرتنا وسلبنا مزيدا من حقوقنا، وهو ما يتطلب معالجة جذر الخلل البنيوي في الجسم السياسي الفلسطيني، من خلال إقرار برنامج وطني يضمن استعادتنا جميع حقوقنا المسلوبة، واستعادة وحدة تمثيل الشعب الفلسطيني داخل فلسطين وخارجها، إلى ما هنالك من المسائل والنقاط الرئيسية والمحورية التي يجب أن تشكل نقاط إجماع ثابتة بين جميع الفلسطينيين، على الرغم من اختلافاتهم السياسية والجغرافية والقانونية، وعلى طول المرحلة النضالية، مهما تطلب ذلك من وقتٍ وجهد، حتى تتكلل بتحقيق جميع أهدافها المذكورة في البرنامج التحرّري المعتمد.
نعم، لا يتضمن أي برنامج وطني مقترح خططا عملية، تدير آليات المواجهة والتصدّي الحالية، إلا أنها جزء لا يمكن فصله عن البرنامج، متضمن فيه بديهياً من خلال النقاط والمرتكزات الرئيسية التي استند عليها النهج التغييري المقترح، إذ غالبا ما يسبق طرح رؤى وبرامج عمل جديدة شرح مستفيض عن الأسباب التي دفعت إليه، من أوجه الخلل الذاتية إلى الظروف الموضوعية الخارجة عن سيطرتنا. كما يعقبه تحليل وشروحات يقدّمها المشاركون في كتابة البرنامج، وهي معنيةٌ بتوضيح آليات العمل الراهنة والمستقبلية، وتحديد المهام الآنية 
والاستراتيجية، فضلا عن إبراز أهم الوسائل النضالية التي تخدم البرنامج، وتدفعه خطواتٍ نحو الأمام.
خلاصة القول إنه لا وجود لخلاف بين الفلسطينيين بشأن ضرورة التصدّي ومواجهة جميع التحدّيات الراهنة، سواء الكبرى منها، كصفقة القرن والتوسع الاستيطاني، أو التي قد يعتبرها بعضهم أقل أهمية، كالقضايا والمشكلات الخاصة بكل تجمع فلسطيني. في حين يكمن الخلاف حول السبل الناجعة لمواجهة هذه التحديات، بين من يتمسّكون بالمنظومة الفلسطينية والمسؤولة، بدرجةٍ ما، عن ما يحل بنا، وآخرين يسعون إلى تهيئة الظروف الذاتية الملائمة لإفشال مخططات الاحتلال وداعميه، والحؤول دون تكرارها، وشقّ طريق استعادة جميع الحقوق المسلوبة. وبالتالي، لنسمّ الأشياء بأسمائها الحقيقية، ولنتحدّث عن الخلاف الحقيقي بين المرتبطين مع المنظومة السياسية الفلسطينية المسيطرة عاطفيا أو سياسيا أو مصلحيا، والباحثين عن تغيير حقيقي يفضي مع تراكم النضال والعمل إلى حصاد وطني نفخر ونعتز ونستفيد منه جميعا.

  ياسر عرفات وأبو إياد وجورج حبش ونايف حواتمة في اجتماع المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر (23/4/1987/Getty)


2 - في الفصل القسري بين الماضي والحاضر والمستقبل: يعمد بعضهم إلى عزل الحاضر ضمن حدود ضيقة، جاعلين منه كيانا منفصلا بذاته ولذاته، لا يتأثر بالماضي، كما لا يؤثر على المستقبل، لذا غالبا ما يردّدون عباراتٍ تعلي من شأن الحاضر وأهميته، وهامشية ما غيره. وعليه، يجب على أي حل أو برنامج واقعي أن ينطلق من الحاضر، والحاضر فقط، أي بمعزلٍ عن الماضي والمستقبل، وكأنهم ينشدون الإعلان عن مجموعة من النشاطات والفاعليات النضالية اللحظية والتخصّصية، المستمدة من الأحداث المباشرة الآنية، كمسار جدار الفصل العنصري، وتوسع المستوطنات، وأموال المقاصّة، وغيرها من القضايا والملفات المباشرة. وبالتالي، تدعو تلك الفئات إلى نظرة واقعية مشوشة وناقصة، تتلخص في نهج أحادي ومباشر لمواجهة المخاطر الملموسة واليومية الآنية، وبمعزل عن أسبابها التاريخية الذاتية والخارجية، ومن دون أي اكتراثٍ لنتائج هذا النهج على مستقبل قضيتنا وحقوقنا. لذا دائما ما نجدهم يناصبون العداء لكل طرحٍ ينطلق من ضرورة معالجة أخطائنا السابقة وتصحيحها، ويرمي إلى البناء لمستقبل أفضل، بعبارات تنتقص من واقعية هذا الطرح ومنطقيته، بغض النظر عن مدى صحة فحواه وصوابيته. وهو ما يعزى في حالاتٍ كثيرة إلى بعض الارتباطات المصلحية، أو ربما نتيجة ميول سياسية لهذا الطرف أو ذاك، كتنظيم سياسي محدّد أو شخصية قيادية، ما يدفعهم إلى التهجم على أي صوتٍ يفضح الدور التدميري لهذه الجهات والشخصيات، ماضيا وحاضرا، خوفاً من أن يؤثر ذلك على إمكانية استمرار سيطرتها (أي المنظومة السائدة) والحفاظ على مؤسساتها وشخصياتها ونظمها ونهجها وخطها وبرنامجها السياسي.
على الرغم من بديهية العلاقة التبادلية بين الماضي والحاضر والمستقبل، في جميع أوجه الحياة، بما فيها الاجتماعية والاقتصادية، إلا أن بعض مدّعي الواقعية يسمون أي طرح سياسي 
ينطلق من هذه البديهية بالمثالية والكيدية والابتعاد عن الواقعية، فالواقعية، في منظورهم، هي التي تنطلق من القبول والخضوع الكامل للمنظومة السياسية المسيطرة، والعمل ضمنها أو بما يدعمها ويعززها فقط. وبالتالي، يتم اختزال الحل الواقعي الهادف والواعي؛ وفقا لهم؛ برد فعل مباشر على تعّديات الاحتلال وداعميه، وبرفضٍ مطلقٍ لأي عملية نقد ومصارحة ذاتية وشفافة وواضحة، تفضح دور الماضي، وتكشف عن مسؤولية القائمين، الفردية منها والجماعية.
ومن الذرائع التي يسوقونها أيضا في تبرير هذا الفصل القسري المطالبة بتنحية المعارك الجانبية، خصوصا الداخلية لصالح الوحدة في مواجهة الاحتلال وداعميه، وهو مطلبٌ محقٌّ يراد به باطل، فالوحدة التي ينشدونها بحق تتمثل في تجاهل الأسباب التي مهدت الطريق أمام الاحتلال كي يصعد إجرامه وتعدّياته على القضية والشعب والأرض الفلسطينية، أي تجاهل دور القادة الفلسطينيين في تمادي الاحتلال. كما تتمثل في محاصرة أيّ محاولة لتغيير مسار الاستسلام والانقسام والمتاجرة بقضيتنا العادلة، فالمطلوب، وفقا لهم، ضمان استمرار الوضع الداخلي على ما هو عليه، مهما أثبتت الأيام فشله ودوره السلبي في تزايد معاناة الفلسطينيين، وفي تراجع حضور القضية الفلسطينية إقليميا ودوليا. وبالتالي، هم لا ينشدون وحدة الشعب، بقدر ما يبغون حماية منظومة الفشل المسيطرة، حتى لو أدى ذلك إلى تقويض القضية كاملة.
3 - في الخلط بين الحل والتحليل: تخلط بعض الأصوات الناقدة للحلول المطروحة بذريعة عدم واقعيتها بين الحل والتحليل، إذ يعتبرون أن جوهر المشكلة في تلك الحلول عدم انطلاقها من تحليل الواقع العالمي بصورة جيدة، وكأن الحل الواقعي مجرّد تحليل دقيق للواقع الدولي، معتبرين هذا الواقع معطى ثابتا وجامدا وباقيا مدى الدهر، وغير قابل للتغيير بجهودنا، أو نتيجة جملة من المتغيرات الخارجة عن إرادتنا. وبالتالي، هم لا يقيمون الحل بناءً على مدى جديته ودقته في تحليل قضيتنا العادلة، وتحديد أهم ركائزها وإشكالاتها، وكأنهم يعتقدون أن الحل الواقعي هو ذاك الذي يقولب القضية والنضال وفق الأهواء والرغبات الدولية الراهنة فقط!!. فهل يعقل أنهم ما زالوا غير مدركين أن الواقع الدولي الحالي يعبر عن تأبيد استعصاء القضية الفلسطينية، إن لم نقل إنه يعمل على تقويضها وإلغائها كليا، عبر إلغاء الحق الفلسطيني الفردي والجماعي كاملا، فهل هذه هي الواقعية التي ينشدونها؟! أو ليس ذلك مدعاةً للاستسلام والتخلي عن جميع حقوقنا. وعليه، تصبح اتهاماتهم بعدم واقعية هذا الطرح أو ذاك مجرّد دعوات مستترة للانهزام والتخلي عن حقوقنا المشروعة.
لا نختلف على أهمية تحليل الواقع الدولي في صياغة أي حل كان، ولأي قضية عالمية كانت، لكن الغرض الحقيقي منه يتمثل في التكهن بتوجهاته وطبيعته ومدى مساندته أو معارضته فرض حل عادل وشامل، وبالتالي تحديد إمكانية الاتكاء على المجتمع الدولي من عدمه، أو حجم هذا الاتكاء وشكله إن وجد. كما لا بد من أن يتضمن تحليل الواقع الدولي دراسة مكوّناته 
المختلفة والتمييز بين بعديه، الرسمي والشعبي، ودراسة إمكانية الاستفادة من التباينات الموجودة بينهما، وداخل كل منهما، من أجل تكوين نظرة تقديرية لإمكانات التأثير على الواقع الدولي الحالي، بشكل مباشر أو غير مباشر عن طريق مناصري قضيتنا العادلة، ففي حين نلمس مسارعة المجتمع الدولي الرسمي؛ ممثلا بالدول الأكثر نفوذاً وتأثيراً؛ من الولايات المتحدة الأميركية إلى أهم دول الاتحاد الأوروبي؛ نحو إدانة جميع الأصوات الناقدة للاحتلال ومحاصرتها؛ وفي مقدمتها الحركة العالمية لمقاطعة إسرائيل (BDS)، نجد على الضفة الشعبية تزايدا كبيرا في حجم التنديد بجرائم الاحتلال وانتهاكاته المستمرة، سيما فيما يتعلق بتوسع المستوطنات غير الشرعية وبنائها، ما ساهم في توسيع دائرة مؤيدي حركة المقاطعة وداعميها، بشقيها الاقتصادي والثقافي. كما يمكن بسهولة ملاحظة تغيير واضح في خطاب جزء مهم من الكتلة السياسية الفاعلة في هذه الدول، والتي قد تتبوأ، بين يوم وليلة، إدارة شؤون الحكم عبر آليات تبادل السلطة الديمقراطية، كالتغيير الحاصل في خطاب وتوجه حزب العمال البريطاني، وفي الحزب الديمقراطي الأميركي على سبيل الذكر لا الحصر. فضلاً عن تباينات الموقف الرسمي بين دول الاتحاد الأوروبي ودول الأميركتين وقارتي آسيا وأفريقيا. بالإضافة إلى ضرورة دراسة أسباب النكوص أو التقدم في مواقف كل دولة على حدة، وفي كل مجتمع مدني على حدة أيضاً. وهي تحليلات ودراسات على غاية كبيرة من الأهمية، لرفد النضال الفلسطيني، وتصحيح أوجه الخلل التي ساهمت في تراجع حضور قضيتنا على مستوى العالم، شعبيا ورسميا. وعليه، هي رافد مهم لأي برنامج كان، بغض النظر عن فحواه، لذا علينا الفصل بين البرنامج التحرّري، أي الحل المقترح من جهة، واستراتيجية العمل الخارجية من جهة ثانية، وبالتحديد فيما يتعلق بالتعريف بالقضية الفلسطينية على الصعيدين الرسمي والشعبي في جميع الدول، عبر الاستفادة من تجاربنا السابقة، ومن تجارب سائر شعوب العالم الحر.
أي من الخطأ جعل طبيعة المجتمع الدولي وتوجهاته مرتكزا رئيسيا في تحديد برنامجنا النضالي الهادف إلى استعادة حقوقنا، بدلاً من إيلائه أهميةً كبيرةً جداً في تحديد استراتيجيتنا الخارجية، الهادفة إلى حشد تأييد واسع لنا ولقضيتنا ولبرنامجنا الذي يضمن حلا عادلا وشاملا، يعيد إلينا حقوقنا جميعها، فبرنامج التحرير ورقة نظرية لا تملك أية قدرة خارقة لفرض رؤيتها بشكل عملي؛ مهما كانت محقّة ومبدئية وعادلة؛ من دون العمل والنضال، الداخلي والخارجي، على جميع المستويات من أجلها، ومن ضمنها النضال من أجل التعريف بجميع أبعاد القضية وأسبابها، وبشرعية الحل الذي نتبناه، وبمدى عدالته لنا ولشعوب المنطقة والعالم. وبالتالي، يجب أن نتحمل مسؤولية تغيير رؤى المجتمع الدولي، الرسمي والشعبي، وتوجهاته، كي تصب في صالح الحق والعدالة لنا ولجميع دول وشعوب المنطقة والعالم. بهذا المعنى، يصبح تحليل الواقع الدولي مهمة رئيسية في بناء استراتيجيتنا الخارجية أولاً، وقد يتحول إلى عامل حاسم في تنفيذ البرنامج المعتمد، إن نجحنا في هذه المهمة.
 
ثانيا: حل الدولتين
ينطلق بعض ناقدي المبادرات الفلسطينية البديلة من فرضيةٍ مفادها بأن الفشل في تطبيق حل الدولتين دليل قاطع على فشل أي مبادرة أخرى، إذ يدّعون أن هذا الحل أكثر واقعية وقابلية للتطبيق، مقارنة بغيره من الحلول المطروحة فلسطينيا، وذلك لاعتبارين مجازيين، سوف تحاول المقالة هنا تفنيدهما تباعا، يدور الأول حول فكرة أن الفشل بتحقيق دولة فلسطينية منقوصة جغرافيا على الأراضي المحتلة عام 1967، أو وفق القرارات الدولية، يعني بالمطلق استحالة بناء الدولة على كامل التراب الفلسطيني. في حين يرتكز الاعتبار الثاني إلى حجم التأييد الدولي والقانوني الكبير لحل الدولتين، في مقابل محدودية، وربما انعدام التأييد لما سواه من الحلول التي تطرحها مبادرات الحل البديل الفلسطيني. وهو ما ينطوي على تبسيطٍ مخلٍّ بالقضية، وقراءة إرادوية للواقع، وتشويه مقصود للواقعية.
تدرج منطقي وكمّي: يُحول بعضهم القضية الفلسطينية من قضية شعب طرد وهجر من أرضه إلى مسألةٍ تعكس خلافا كميا بين مجموعتين حول حجم هذه الأرض ومساحتها، ما يفضي إلى أن قبول الفلسطينيين بمساحة جغرافية أقل لهم ولدولتهم المنشودة سوف يسهل من إمكانية نيلهم ذلك، لذا تصبح المطالبة بدولة فلسطينية على كامل التراب الفلسطينية مجرّد دعوات حالمة غير قابلة للتنفيذ، فكيف تحصل على كامل الأرض، والطرف الآخر يرفض منحك جزءا منها. وهو منطق سطحي مشابه للتعامل الكمّي مع الطعام والشراب مثلا، فمن يعجز عن تناول قدر معين من الفاكهة ولتكن نصف كيلو من التفاح، لن يتمكن من تناول ضعف هذه الكمية أي مقدار كيلو كامل من ذات التفاح وبالظروف ذاتها. معادلة بسيطة وواضحة وفق اعتقاداتهم التي يروجونها يوميا بأشكال ووسائل مختلفة، إذ يقولون حرفيا إن الفشل أو استعصاء إقامة دولة فلسطينية على 44% من أرض فلسطين التاريخية؛ وفق قرار التقسيم 181، يعني حتميا استحالة تشييدها على 100% منها. وكأن الدولة مسألة كمّية بحتة، وإن حاولوا أحيانا دمج مفهومهم الكمّي المشوش مع مفهوم العمل التراكمي، بحيث أن علينا بناء الدولة على 10% من مساحتها التاريخية ثم 20%، وهكذا حتى اكتمالها تماما، بل ربما يذهب بعضهم إلى أقل من 10%، وغالبا ما يستشهدون على صحة ذلك بتدرج الاحتلال في السيطرة على الأراضي الفلسطينية، إذ بدأ ب 78% من أرض فلسطين إبّان النكبة، ليصل إلى أكثر من 100% إبّان النكسة، إن أخذنا بالاعتبار سيطرة الاحتلال على كامل التراب الفلسطيني، وعلى بلدات وقرى ومدن عربية أخرى. وهو ما يؤشّر وفقا لهم إلى جدوى المنطق الكمّي في حل القضية الفلسطينية، ويجعلهم يصرخون بأعلى صوتهم؛ لنستغل الفرصة ونقيم دولة فلسطين على أية مساحةٍ كانت، مهما صغرت اليوم، خطوة أولى نحو السيادة والسيطرة الفلسطينية على كامل التراب الفلسطيني مستقبلا.
هذا منطق يستقيم فقط في سرديات قصص الأطفال والسحر والشعوذة وما شابهها من قصص خيالية، لأنها تخلو من أي تحليل ومعالجة علمية ومنطقية تقوم على فهم جذر المشكلة ودراسة طبيعتها، وقراءة الظروف التي ساهمت في تمدّدها وبقائها، قبل التسرع في إلقاء الأحكام القطعية الناجزة. إذ أن تحليل جذر القضية الفلسطينية وفهمه سوف يقضي كليا على أي طرح يستند إلى منطق كمّي تحريفي لقضيتنا العادلة، إذ لا يمكن القياس، وفق المنطق الكمي، في قضايا وملفات اجتماعية وسياسية عديدة، كقياس مستوى تهذيب أي منا، أو طائفية أي مجتمع من المجتمعات ورجعيته، بل حتى مستوى فشل الدول أو نجاحها، على الرغم من وجود مؤشّرات كمّية تعطي دلالات على التقييم العام، من دون أن يعني ذلك القدرة على وضع تصنيف كمّي تراتبي من الأعلى إلى الأسفل، كما يروج بعضهم. لذا ومن أجل توضيح ذلك، لا بد من التمييز بين ضرورة تحديد جذر المشكلة وخطوات الحل، وبين الوقت اللازم لتنفيذ الحل وتلمس نتائجه من جهة ثالثة. فبالعودة إلى فشل الدول ونجاحها، لندرس الدولة  الفاشلة، هذه الدولة التي يتمظهر فشلها في شتى نواحي الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والعلمية والخدمية، نتيجة؛ جذر المشكلة؛ فساد القائمين على الدولة بصفتهم الفردية والجماعية، أي كأشخاص فاسدين أو جاهلين وغير مؤهلين لتحمل مسؤولية إدارة الدولة، وصولا إلى خطأ النهج والاستراتيجية المتبعة سياسيا واقتصاديا. لذا، يرتكز الشرط الأول للخروج من مصافّ الدولة الفاشلة على تغيير المنظومة الحاكمة فرديا ومنهجيا، وإحلال منظومة قادرة على إصلاح الأوضاع، وهو ما يمثل حل المشكلة الأساسية، بينما يتطلب تلمس نتائج الحل إلى زمنٍ قد يطول، حتى تتحول مؤشرات الدولة اجتماعيا واقتصاديا و علميا.. إلخ من الفشل إلى النجاح، وهي المؤشّرات التي عادة ما تتحسّن بشكل كمي وتراكمي في الوقت ذاته، بينما لا يمكن قياس جذر المشكلة الممثلة بالأفراد والنهج بشكل كمي بسيط. ويعنينا هنا التمييز بين أهمية المؤشرات الكمية في دراسة آثار النهج وتتبعها أو الاستراتيجية أو حتى الحل المتبع في أي قضية كانت، وبين حرف القضية وطمس جذرها وحصرها بمؤشر كمّي واحد، أو مجموعة منتقاة منها في أحسن الأحوال، من دون أي اعتبار أو اهتمام بحلها، وهو ما سوف يؤدي، لا محالة، إلى مزيد من التعقيد ومزيد من تردّي الأوضاع يوما بعد يوم، حتى لو لمسنا تحسنا نسبيا في بعض المؤشرات الكمية الخادعة.

  عباس (وسط) في أثناء ترؤسه اجتماعا للمجلس الوطني الفلسطيني في رام الله (30/4/2018/فرانس برس)

عندما يقيس المتشبثون بواقعية حل الدولتين الدولة الفلسطينية وفق مساحتها الجغرافية، فإنهم يحرفون القضية إلى موضع يعتقدون أنه مناسب لعرض منطقهم المشوّه، وهو ما يجعلني أستعيد تجربة الحكم الذاتي وسيطرة حركة حماس على غزة التي يعتبرها بعضهم أرضا فلسطينية محرّرة أو منتزعة بقوة السلاح أو عبر المسار السلمي، لكنها ساهمت في تدهور الوضع الفلسطيني وفي تزايد عنجهية الاحتلال وعنصريته وإجرامه، على الرغم من وهم التراجع الكمي السخيف الذي طال الاحتلال، فيما يخص المساحات الجغرافية المسؤول عنها، أو بالأصح تراجع حجم دولة "إسرائيل" وفق منظورهم المشوش والمضلل!

إجماع دولي: من الذرائع التي يسوقها المؤيدون لحل الدولتين، والرافضون أي اقتراح مغاير، أنه يحظى بإجماع دولي كبير ونوعي، بمعنى أنه إجماع غالبية؛ إن لم نقل جميع؛ دول العالم والمؤسسات الدولية من ناحية، وخيار الدول الأكثر أهمية وتأثيرا على مجرى الأحداث، من الولايات المتحدة؛ قبل فترة ترامب الرئاسية؛ إلى جميع دول الاتحاد الأوروبي، والصين وروسيا الاتحادية من جهة أخرى، ما يضمن تطبيقه وتنفيذه حتى لو عارضه الاحتلال. ويتجاهل هذا المنطق الحقائق السياسية والميدانية التي تؤكد على فشل حل الدولتين، واستحالة تطبيقه مهما طال الزمن، فهو ناتج عن التشبث بتصريحات رسمية فارغة، خبرناها كثيراً ومنذ زمن طويل جداً، قد يعود بنا إلى وعود وتعهدات الانتداب البريطاني الذي لم يحل دون تمدّد دولة الاحتلال على مساحات جغرافيةٍ كان من المفترض أن تقوم عليها دولة فلسطين آنذاك، تماما كما لا يقف المجتمع الدولي اليوم سدّاً منيعاً في وجه قضم الاحتلال للأراضي التي كان يجب أن تقوم عليها الدولة الفلسطينية الآن، كما لا يتصدّى المجتمع الدولي لأي من تجاوزات الاحتلال العنصرية والإجرامية واعتداءاته بحق جميع التجمعات الفلسطينية داخل أراضي 48، والقدس والضفة وغزة، إلى ما هنالك من مؤشرات ودلائل تؤكّد على انتهاء حل الدولتين وفشله، وعلى عبثية التعويل على الموقف الدولي، خصوصا بما يخص القضية الفلسطينية.
إيقاف "الصراع العبثي": يحاول بعضهم تصوير خيار الدولتين أنه الحل الوحيد المتاح والقادر على وقف الصراع الحاصل اليوم بين"الإسرائيليين" والفلسطينيين، هذا الصراع الذي يعتبرونه السبب الرئيسي في منع الفلسطينيين "والإسرائيليين" من ممارسة حياتهم الطبيعية، فيتم تصوير الصراع؛ لا الاحتلال؛ على أنه السبب في تخريب حياة الفلسطينيين، والحؤول دون تحولها لحياة طبيعية، لنفقد حقنا في الحب والمرح والسفر وربما الفشل والانكسار... إلى ما هنالك من مشاعر إنسانية طبيعية، وتجارب فردية ممتعة بفشلها ونجاحها. فقد أدّى الصراع العبثي؛ وفقا لهم؛  إلى تحويلنا من بشر طبيعيين إلى صور عن أبطال مفترضين، فالفلسطيني مقاتل ومدافع عن أرضه تلقائيا، وبالتالي فهو مترفع عن شؤون الحياة اليومية، والحاجات العاطفية كالحب، كما المادية كالطعام والشراب واللباس. لذا يدعون إلى وقف هذه المهزلة؛ مرة أخرى وفقا لهم؛ وهذا الصراع العبثي الذي يفقدنا إمكانية الاستمتاع بالحياة، والذي لن ينتهي إلا بانتفاء أحد طرفيه. وعليه، هم ينشدون حلا آخر لا يقوم على إلغاء الآخر، والقضاء على حقه هو أيضاً في الاستمتاع بالحياة، ويجدون ضالتهم في حل الدولتين، على اعتباره حلا توافقيا وسطيا، لا يلغي أيا من الجانبين، ويضمن وقف الصراع وممارسة حياة البشر الطبيعيين العادية التي يفتقدونها اليوم.
.. نعم هناك من يحمّل الفلسطيني، بشكل مباشر أو غير مباشر، هذه المسؤولية، ويخلي عن قصد أو دون قصد مسؤولية الاحتلال عنها، وكأنه صراع اختياري سرنا نحوه بإرادتنا، وهو تعبير عن جهل مطلق بتاريخ الصراع وبطبيعته، الذي يخلو؛ أو يكاد؛ من أي مظهر فلسطيني حاول إلغاء وجود الآخر على أسس دينية وبالذات اليهودية، بل على العكس فقد أجمعت غالبية الرؤى الفلسطينية المقترحة منذ عهد الانتداب على استيعاب اليهود المقيمين في فلسطين، من سكان أصليين وأحياناً من المهاجرين أيضاً، بما لا يخلّ بالتوازن السكاني للأرض وإمكانياتها الاستيعابية، ضمن دولة فلسطينية حضارية عادلة، ومن دون أفضلية سياسية لطرف على حساب آخر. في حين تصر الحركة الصهيونية، ودولة الاحتلال" الإسرائيلية" لاحقا، على نفي الآخر الفلسطيني، وإلغائه، وطرده، وتشريده، أو عزله، كي تلغي أي رابط بين الفلسطيني وأرضه، سواء مع الموجودين داخل حدود 48، أو في القدس والضفة وغزة، أو مع اللاجئين خارج فلسطين. وهو ما يعني أن أسباب الصراع الحقيقية تتجسّد في إصرار الحركة الصهيونية، ودولة الاحتلال من بعدها، على إلغاء الوجود الفلسطيني، مهما كان صغيراً وهامشياً، لذا الصراع وجودي يفرضه الطرف الأقوى عسكريا وماليا، أي الاحتلال، الذي يرفض حل الدولتين بالقدر الذي يرفض فيه حل الدولة الفلسطينية الواحدة، ما يؤكد أن الاحتلال هو العائق الأكبر، وربما الوحيد، الذي يسلب سكان المنطقة الأصليين، والقادمين إليها، من جميع حقوقهم، ومنها حقهم في الحياة الطبيعية، الأمر الذي يجعل من تجاوز هذا العائق والقضاء عليه كليا شرطا لازما لنجاح الحل، من دون إغفال عن عوائق أخرى على أي حل أخذها بالاعتبار لكي ينجح في طي صفحة المظالم التي فرضتها الحركة الصهيونية أولاً، والاحتلال لاحقا.
ثالثا: أسس الحل الواقعي الفلسطيني
حل نهائي وجذري: استنادا إلى ما سبق تقديمه من تفنيد لغالبية الأسس التي تنطلق منها الانتقادات المجحفة بحق الرؤى المتداولة عن شكل حل القضية الفلسطينية وطبيعته ومرتكزاته، أصبح من الأسهل تحديد القاعدة التي يفترض بأي حل واقعي الانطلاق منها، وهي البحث عن حل جذري وعادل ونهائي للقضية، بدلاً من الدخول في متاهات استقراء المزاج العام الدولي وتوجهاته. مع ضرورة التمييز بين البرامج والرؤى الجدّية والعملية التي تقدم قراءات واضحة لمعوقات نجاح الحل، وترسم مسارا، ولو أوليا، لكيفية تهيئة الظروف الذاتية والموضوعية الضرورية لنجاح الحل المقترح من جهة. وبين البرامج الحالمة التي تتجاهل البحث في الإمكانيات والمعوقات وكيفية إزالتها، لصالح التشبث بإلقاء خطابات رنانة تلامس مشاعر المظلومين فقط، من دون أي اكتراث بكيفية تطبيق هذا الحل وتجسيده عمليا. وهو ما يعيدنا إلى ضرورة التأكيد على المحاور الثلاث المشكلة للقضية الفلسطينية، الأرض والشعب والسيادة، إذ تتمحور القضية الفلسطينية حول هذه المحاور الثلاث، لذا على أي حل واقعي أو يدّعي الواقعية تقديم تصور واضح وشامل له، من دون إهمال أو التقليل من شأن أي منها.
مثلا لو فرضنا جدلا نجاح المجتمع الدولي في تطبيق خيار الدولتين اليوم أو في المستقبل القريب جداً، هل يصح اعتباره حلاً واقعيا للقضية الفلسطينية وللصراع الحاصل على خلفيتها؟. لا يكفي تطبيق هذا الخيار من أجل اعتباره حلا واقعيا، لأن أي خيار يعيد الصراع إلى مربعه الأول، ولو بعد حين، لا يمكن اعتباره حلا. حتى لو نجح المجتمع الدولي في فرض هذا الخيار، كما نجح في تمكين قوى محلية  قادرة على كبح جماح المجتمع المحلي، تتحكّم في ردود الفعل الشعبية، وتعيق النضال الشعبي، فترة. كونه انعكاسا لرغبة الطبقة أو الفئات المسيطرة على المجتمع الدولي والمنطقة في إزالة مظاهر الصراع العلنية، من دون الاكتراث بباطنها، وهو ما سوف يؤدّي، عاجلاً أم أجلاً، إلى تفجر مظاهر الصراع الخفية بطرق ووسائل شتى عند أول فرضة متاحة، قد تتمثل في ترهل أجهزة القمع المحلية المسيطرة، أو ربما نتيجة تماديات الاحتلال أو داعميه، أو نتيجة تزايد الاحتقان الشعبي، بفعل هذا الاتفاق غير المنصف.
مقاتلون فلسطينيون في مخيم عين الحلوة في لبنان أمام التلفزيون يتابعون أخبار صحة ياسر عرفات (28/10/2004 فرانس برس)

إذ كيف لأي عاقل أن يعتقد أن التخلي عن أكثر من 60% من الأرض قد يؤسّس لحل دائم وقابل للصمود والاستمرار، حل يتمكن من إقناع جزء كبير من الفلسطينيين بالتخلّي عن حقهم الطبيعي والقانوني في العودة إلى أراضيهم وممتلكاتهم التي انتزعها الاحتلال منهم. طبعاً قد يجادل بعضهم، بطوباوية غريبة، بأن خيار الدولتين لا ينتقص من حق العودة، أي لا يمكن اعتباره بديلاً عنه، وكأن المجتمع الدولي والاحتلال كذلك قد يقبلون بإقامة دولة فلسطينية على الأراضي المحتلة عام 1967، بالإضافة إلى تطبيق حق العودة للفلسطينيين إلى أراضيهم وقراهم وبلداتهم الأصلية، بما فيها التي يعتبرها هذا الخيار دولة "إسرائيل"، وهو ما يعني إقامة دولة فلسطينية على جزء من الأراضي الفلسطينية، على التوازي مع فرض غالبية فلسطينية في دولة الاحتلال المزعومة، ما قد يحولها إلى دولة ثنائية القومية!. وكأن الاحتلال يرفض عودة الفلسطينيين ضمن خيار الدولة الواحدة، لكنه يقبلها في خيار الدولتين. وعليه، حتى ولو نجح المجتمع الدولي في تطبيق خيار الدولتين بأي شكل أو صيغة كانت، بل حتى ولو كان تطبيقا حرفيا وكاملا لقرار التقسيم، إلا أنه سيبقى حلا غير واقعي، وعاجزا عن حل جذر الصراع، والحؤول دون تجدّده بعد حين، بفعل مشاعر الغبن والغضب والظلم المتولّدة عنه.
المشكلات والتبعات المتراكمة بفعل السنين: لا يمكن العودة بالزمن إلى الخلف، مهما جاهدنا وعملنا، فالحياة مستمرة وماضية في طريقها، مهما تفشّى الظلم والإجرام، وهو ما ينطبق كذلك على أي قضيةٍ طال انتظار حلها؛ كالقضية الفلسطينية؛ إذ تتراكم الحوادث والحيثيات اليومية على أكثر من صعيد وموقع، حتى تضحي بمرور الأشهر والسنوات متغيرات كبيرة وضخمة، بعضها يبدو وكأنه عائق جديد، يضاف إلى جملة العوائق الأساسية التي حالت دون حل القضية منذ البداية، وبعضها الآخر نتائج طبيعية لواقع جديد فرضته الظروف والمجريات. واقع لم يساهم جزء كبير من المدنيين في فرضه. وبالتالي، يصعب قبول تحميلهم مسؤولية أفعال لم يقترفوها، على الرغم من تحمل كل منا مسؤولية أفعاله مهما صغرت أو كبرت. وخصوصا في ظل قضية مستعصية عن الحل أكثر من سبعين عاما، تناوبت عليها أجيال متعددة من طرفنا ومن الطرف الإسرائيلي، أجيال كان لكل منها حياته الخاصة المبنية على الظرف والمكان الذي وجد به، وهو ما يفرض واقعا جديدا لا تتحمل الأجيال اللاحقة المسؤولية عن وجوده، لكنها تبقى جزءا منه. وإن كانت ضحية بشكل أو بآخر لأخطاء وخطايا وإجرام أجيال سبقتها، إلا أن ذلك لا يعني تبرئة الأجيال اللاحقة من كامل مسؤولياتها الأخلاقية والسياسية والقانونية وحتى العسكرية، مع مراعاة عدم معاقبة أو محاكمة أي شخص كان استنادا لأخطاء أو إجرام غيره مهما كانت صلة القربى بينهم.


وهي متغيرات ضخمة ومتعدّدة، وفيها بعض التباينات وفق مكان كل منا، فالتغيرات الحاصلة ضمن أوساط اللاجئين خارج فلسطين تختلف جذريا عن الحاصلة في أوساط اللاجئين داخل فلسطين، أو في القدس وأراضي 48، كما هناك تغيرات مفتعلة من العصابة الصهيونية وسلطات الاحتلال ساهمت في تغيير البنية الديمغرافية والسكانية داخل فلسطين، وهي من نتائج الاحتلال الإحلالي طويل الأمد، والتي تتطلب بحوثا متعمقة، بهدف إعادة حقوق الفلسطينيين التاريخية الفردية والجماعية من دون ظلم لسائر الفلسطينيين والسكان المسالمين. بمعنى أن واقع اللجوء والحركة العمرانية داخل فلسطين قد أحدث وضعا جديدا مختلفا عما كان عليه قبل النكبة، كإقامة اللاجئين في تجمّعات سكنية جديدة رافقها بناء مجتمع جديد متكامل اقتصادي واجتماعي، قد يجعل من اقتلاع اللاجئ منه عنوة ظلما غير محسوب، حتى لو كان الهدف إعادته إلى بلدته أو قريته الأصلية. هذه الأماكن التي قد تكون اليوم أوقافا ذات ملكية عامة، كالمدارس والمشافي ودور العبادة والطرقات والدوائر الحكومية، وإلى ما هناك من منشآت عامة خدمية أم ترفيهية. كما قد يعتبر من الظلم إقرار نظام يمنح اللاجئين ملكية خاصة، استنادا إلى مكان لجوئهم، وإلى بلدتهم الأصلية في الوقت نفسه، سيما في الحالات التي منح فيها بعضهم جزءا من أملاكه للاجئين طردوا من قراهم وبلداتهم. كذلك الأمر بما يخص السكان اليهود من أبناء فلسطين الأصليين، أو من القادمين إليها من دول ومناطق متعدّدة قبل عقود، الذين تزاوجوا وتوالدوا في وعلى أرض فلسطين منذ اليوم الأول لقدومهم، فمن الطبيعي تحميل المستوطنين الأوائل مسؤولية هذه الجريمة بحق الأرض والشعب الفلسطيني، في حين لا تتحمل الأجيال اللاحقة المسؤولية القانونية والأخلاقية والسياسية نفسها، بل تتحمل المسؤولية الكاملة عن أسر الفلسطينيين ومواجهتهم في جميع الحالات التي حدثت أو التي سوف تحدث. حيث تشير غالبية الاحصاءات الموثوقة إلى مشاركة غالبية القطاعات السكانية اليهودية في مواجهة الفلسطينيين وقتلهم وقمعهم من دون أن تغفل وجود نسب قليلة تمتنع عن ذلك، على الرغم من الأعباء التي يفرضها الاحتلال عليهم نتيجة امتناعهم. وهو ما يحتم علينا أخذ ذلك بعين الاعتبار لاسيما، إن شهدنا مستقبلاً تغيرا جذريا في ذلك، تغيرا يعكس ارتفاع نسبة الممتنعين عن المشاركة في مواجهة الحق الفلسطيني، ما يتطلب منا تقديم حلول تكفل لهم حياة طبيعية في الأراضي التي ولدوا وترعرعوا فيها، من دون أن يمس ذلك بحق سكان البلاد الأصليين.
إذا هناك متغيرات سكانية وجغرافية واقتصادية عديدة حصلت بفعل الزمن، والتي يستحيل حلها بشكل عادل عبر العودة بالزمن إلى عام 1948، لاستحالة ذلك من ناحية، وللتخوف من حدوث مظالم بحق جزء من البشر من ناحية ثانية، وهوما يفرض العمل على إعداد ودراسة المستجدات الإنسانية والعمرانية بموضوعية ومنهجية تحتكم للحقوق الفردية والجماعية تاريخيا وحاضرا في الوقت نفسه.
تهيئة الظروف الأساسية: تتحوّل بعض الحلول المطروحة إلى مجرد وجهات نظر وخطب سياسية منمقة، حتى لو تضمنت منطقا حقوقيا متكاملا، لا يغفل أية جزئية حقوقية مهما صغرت، وذلك لأن قوة أي حل أو مقترح حل، تكمن في القدرة على تنفيذه وتحويله إلى واقع ملموس، فالحل معترك نضالي يومي يطول أو يقصر وفق الظروف والأوضاع الذاتية والموضوعية. وعليه، لا تستمد واقعية أي حل من مدى قانونيته فقط، بل من قدرته على تحديد الوسائل النضالية والظروف الذاتية الملائمة لنجاحه أيضاً، وبالتالي على تحديد الخطوات الضرورية لتهيئة هذه الظروف، أي لا يكفي ترداد العبارات المعبرة عن حقنا باستعادة جميع حقوقنا كي ندّعي امتلاكنا حلا أو خطابا واقعيا، من دون أن نكلف أنفسنا عناء البحث عن حل أو حلول لجميع التبعات التي فرضتها السنين والأيام، والتي أصبحت جزءا متشابكا مع القضية الأساسية، ومن دون تقييم وضعنا الراهن وتحديد مواقع الخلل والضعف فيه، وصولا إلى عرض مسار تغيير الواقع بما يتوافق مع مسار الحل الذي ننشده.