حاشية أخرى في جائحة العصر

حاشية أخرى في جائحة العصر

22 ابريل 2020
+ الخط -
يلاحقنا كورونا، حتى ونحن في محاجرنا نريد تفادي حضوره، كل ما يحيط بنا، كل ما نسمعه، كل ما نراه، كل ما نقوله يكاد يرتبط بهذا الوباء اللعين، على نحو أو آخر. 
ومنذ ظهوره المفاجئ، ونحن نتبادل الأفكار والآراء والأسئلة التي لا تنتهي: من أين جاء هذا الوحش وكيف، كيف اقتحم حدود البلدان وبوابات المدن، ووصل إلى أقصى الأرض في هذا الزمن القصير؟ كيف استطاع أن يتدخّل في السياسات، ويقلب الخطط، ويفرض أجندته على قادة العالم وسياسيه ومنظّريه؟ وكيف فتك بأكثر من مليوني بشري في بضعة أشهر؟
ثم ماذا بعد كورونا؟ ما هو شكل العالم في الزمن اللاحق؟ من سيقود العالم وأية دولة أو دول سوف تكون لها الصدارة؟ وهل حقاً سوف ينهي كورونا "السياسة"، بمفهومها اليومي المتداول؟
الإنسان، بحسب أرسطو، حيوان سياسي بطبعه، والسياسة جزء من إنسانيتنا، وتطوّرنا، وتكيّفنا داخل مجتمعات وأنظمة ومؤسسات لها قوانينها وحدودها وآفاقها، ومن الصعب أن نفكّ السياسي عن غير السياسي، ولذلك أصبح كورونا موضوعاً سياسياً مفتوحاً للنقاش ولتبادل الرؤى، وطرح الحلول والمعالجات، ذلك كله من أجل بقائنا، نفعل ذلك في محاجرنا، وعلى الشبكات ووسائل التواصل، وفي مواقع العمل، وحتى في الجادّات والطرقات، وتظل عيوننا ليس على الأطباء والمسعفين وخبراء الفيروسات فحسب، وإنما على السياسيين أيضاً، كي يرسموا لنا طريق الخلاص من هذا الوحش الفتاك، ويضمنوا لنا العيش بأمن وسلام، وفي خضم هذا كله نحن لا نطلب من قادة العالم وحكمائه التخلي عن الصراع على السلطة، أو التنافس في الوصول إلى القمة والاستحواذ على القيادة، لأننا لا يمكن أن نتخيّل السياسة من دون صراع وتنافس ورغبة في الاستحواذ على القرار، هكذا يقول ماكس فيبر، كما لا تشتغل السياسة من دون الاعتراف بالمواطنة، وبحقّنا في الحصول على حصتنا في السياسة والاعتراف بنا مواطنين، ما نطلبه منهم ليس سوى السياسات الوحيدة الممكنة التي تضمن لنا البقاء، لنقل سياسات البقاء، حيث تتوقف مصائرنا على ما يتخذونه من قرارات، وما يضعونه من خطواتٍ على طريق قتل الوحش وإفنائه!
دعونا نختبر، ونحن في محاجرنا، صورة العالم التي تمرّ من أمامنا، ونحسب أن الجانب اللامع 
فيها هو للصين التي تعرّضت لاتهاماتٍ بعضها صحيح، فهي بالفعل أخفت عن المجتمع الدولي ما عرفته عن ولادة الوحش وانتشاره، وزيّفت أرقام الضحايا وتلاعبت بها، وسبّبت إرباكاً لغيرها في مواجهة الكارثة، لكنها في المقابل وضعت خطة طوارئ صحية لمعالجة الكارثة وتداعياتها في الداخل، ونجحت إلى حدّ ملحوظ في خفض معدّلات تصاعد العدوى، وخطّطت للعودة إلى الحياة الطبيعية بزمن قياسي، وعوّضت عن تقصيرها بفتح أذرعها وإبداء تعاونها مع دول العالم عبر توفير المعدّات الطبية والدعم الفني، وقد أخذت روسيا وإسبانيا وإيطاليا وفرنسا وغيرها من دول القارّة القديمة حصتها من تلك الإمدادات إلى جانب العراق وفنزويلا وإيران وأقطار أخرى، والمفارقة اللافتة أن الولايات المتحدة نفسها، وهي التي قادت الهجوم على الصين، طلبت من بكين معاونتها في تعزيز قدرة الاستجابة لبعض المدن الأميركية.
في جانب آخر من الصورة، نشهد أميركا وهي تترنّح على وقع فشل رئيسها دونالد ترامب في إدارة الأزمة، والذي ظهر مرتبكاً في مؤتمراته الصحافية اليومية، وحتى في تغريداته التي تعوزها الحجّة والموضوعية، وشعوره بالفشل دفعه إلى فتح النار في وقت واحد على الصين ومنظمة الصحة العالمية، وعلى خصومه الديمقراطيين، وحتى على بعض حكام ولايات بلاده الذين رفضوا إنهاء حالة الحظر الاجتماعي، ووجدوا في إعادة الحياة الطبيعية، وقت تصاعد أرقام الإصابات والوفيات، ما يقوّض النظام الصحي ويهدد السلم الاجتماعي.
هناك أيضاً، وفي زاوية معتمة من الصورة، جهد مرصود هدفه استغلال انتشار الفيروس وتفشيه كذريعة للتحكّم الاجتماعي بالمواطنين العاديين والمؤسسات العامة، وسعي نفر من السياسيين في هذا البلد أو ذاك لاستخدام الأزمة في تدمير خصومهم، أو للنيل من أنظمة ذات أيديولوجيات معينة، أو ترويج نزعات عنصرية ضد شعوب أو دول بعينها.
تظلّ المساحة الأكثر إضاءة ولمعاناً في الصورة لأولئك الجنود المجهولين، الأطباء، المسعفين، العلماء، خبراء الفيروسات، واختصاصيي المناعة والرعاية الاجتماعية، أولئك وحدهم من يضمنون لنا البقاء والعيش في عالم مختلف، ولن تكتمل صورة عصر ما بعد كورونا ما لم تكن لهم فيها المساحة الأوسع والموقع المتقدّم.
583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"