الفيروس المستجدّ والوباء القديم .. في الجزائر وغيرها

الفيروس المستجدّ والوباء القديم .. في الجزائر وغيرها

03 ابريل 2020
+ الخط -
لا يبدو أن جائحة فيروس كورونا أنهت الخلافات السياسية المستعصية في الجزائر، فقد واصلت قوى المعارضة الراديكالية داخل الحراك، حتى بعد إقرارها وقفه مجبرة، تحت وقع المنع التام للمسيرات، ووقع الضغط الشعبي الرافض مواصلة الاستهتار بحياة الناس بدعوى مواجهة الاستبداد السياسي، واصلت هجماتها في مثل هذه الظروف ضد منظومة الحكم الجديد، والإجراءات التي تحاول الحكومة القيام بها، بل ووصل بها الأمر إلى دعوة الرئيس عبد المجيد تبون وحكومته إلى مغادرة الحكم وترك البلاد في هذه الظروف الصعبة.
ويبدو أن أصواتا عديدة، عرفت بالتعصب وقلّة الحكمة، تريد أن تستغل جائحة كورونا، لتحقق ما لم تحققه في زمن السلم، عبر تضخيمها بعض حالات التقصير في مواجهة الوباء، كنقص أدوات الوقاية للأطقم الطبية، أو استثارة الغضب الشعبي، خصوصا في ولاية البليدة التي تعيش حالة الحجر الصحي الكامل، وكذا استغلال انتشار ظاهرة الطوابير على بعض المواد الغذائية الأساسية مثل الدقيق، وترويج إمكانية حصول مجاعة في البلاد.
والحق أن توجها مثل هذا، في ظل مصيبة كالتي تعيشها الجزائر والعالم أجمع، يفقد أصحابه كثيرا من القيم الأخلاقية، ويجعل منهم أشبه بمن يطعنون الوطن في الظهر في زمن الحرب.. وهو ما عبر عنه الرئيس تبون صراحة، عندما وصف هذه الجهات التي لا تريد أن تعقد ولو "هدنة مؤقتة" من أجل المصلحة العليا للوطن بأنها "أصوات ناعقة"، مضيفا أنها "تمتهن بإصرار غريب فن ترويج الشائعات المغرضة، والأخبار الكاذبة المدفوعة بحسابات دنيئة حاقدة"، محذّرا "من مغبة التمادي في الانحراف بحرية التعبير خارج إطارها القانوني".
بهذا المعنى، فشل الفيروس المستجد في إزاحة الوباء القديم بكل ما يحمله من أحقاد سياسية
 مترسبة في أعماق الأعماق، من المشهد الجزائري، حتى أن هذا الفيروس المستجد بدا كأنه مخلوق ملائكي، لا حول له ولا قوة، أمام فيروس الكراهية المسشتري منذ زمن بعيد، وهو الحال الذي استشعره في الجزائر أحمد طالب الإبراهيمي، وزير الخارجية زمن هواري بومدين، وأحد أبرز وجوه الحراك المعتدلين، عندما سارع إلى الدعوة إلى ضرورة "تغليب" روح التضامن الوطني و"التحلي بالانضباط"، من أجل التصدّي لوباء فيروس كورونا، ودعا إلى عدم "الانجرار وراء الخطابات المفزعة التي تزرع الرعب في نفوس المواطنين الآمنة".
ولا يبدو هنا الوضع الداخلي الجزائري حالة شاذة في الوطن العربي، بل هناك أوضاع أسوأ بكثير، عجز فيها الفيروس المستجد عن زعزعة الفيروسات القديمة من خلافات سياسية ومناكفات أيديولوجبة، بل وعجز حتى عن وقف صوت الرصاص والمدافع، احتراما على الأقل للوضع الإنساني الراهن، وتجنيب الجماعات المنخرطة في تلك الصراعات العبثية أن يكونوا مصدرا للعدوى وانتقال الفيروس إليهم.
في ليبيا، لم يقدر فيروس كورونا على "فيروس السلطة" الذي يسكن رأس الجنرال خليفة حفتر، من أجل وقف قصفه طرابلس، وإنما زاد، فسارع الخطى لاستيراد مزيد من الفيروسات في عمليات جلب مضاعفة لمرتزقة فاغنر الروس والشبيحة إلى أرض ليبيا .. واستعصى على الفيروس المستجد أن يخترق ساحات الوباء اليمنية، في ظل وجود الفيروس الحوثي، مشتبكا مع فيروسات التحالف العربي. كما وقف الفيروس الكوروني الصغير محتارا في كيفية التعامل مع نظام سوري، كانت هوايته المفضلة قتل شعبه بالكيميائي، فقد جاءت الأرقام الرسمية السورية وكأنها تقول إن الفيروس ربما يكون قد استثنى سورية الأسد التي عقمت نفسها طويلا بغاز السارين! أما مصر عبد الفتاح السيسي التي غطت كثيرا على انتشار الفيروس المنتشر في أوصالها، فلا يبدو أن كورونا قادر على محو الحقد الدفين الذي تم زرعه ضد الإخوان المسلمين، لقد أوهمت آلة الدعاية الاعلامية المصريين أن الطاعون هو الإخوان والإخوان هم الطاعون، حتى أن كل الأحاديث والدعوات التي بدأت تطلق من أجل إطلاق سراح السجناء السياسيين في مصر، وهم بالآلاف، خشية من تفشي الوباء بينهم، باتت عبثية. ومن يدري، فربما يفكر النظام المصري في توظيف الوباء للتخلص من معارضيه في السجون، من دون الحاجة الى تدخل العناية السامية في القتل على الطريقة التي تمت بها عملية اغتيال الرئيس محمد مرسي.
لعل أصل الداء في هذا الوباء العربي الخاص، الوباء القديم الذي هو أطول عمرا بكثير من الوباء المستجد، لم يأت من ووهان الصينية، بل من أبو ظبي .. هناك يتم ترويج فكرة أن الخطر 
الإخواني أكبر حتى من أي خطر، ولذلك سواء تفشى الفيروس المستجد أو توقف، فالحرب في ليبيا وسورية لن تتوقفا غدا، كما أن الرحمة لن تجد لها طريقا الى دهاليز السجون المصرية. ولعل مكالمة ولي عهد أبوظبي، محمد بن زايد، الهاتفية مع بشار الأسد، بعد إعلان النظام في دمشق تسجيل حالات إصابة بفيروس كورونا، تظهر كيف أن فيروس كوفيد - 19 يحتاج، في حالات بعينها، ليس إلى أجهزة التنفس الاصطناعي، وإنما إلى أجهزة كشف الكذب، وقد أظهرت دولة الامارات التي اكتشفت فجأة فكرة التضامن مع الشعب السوري لمواجهة كورونا أن عدوها الأول هو الإسلام السياسي الذي تحمل لواءه جماعة الإخوان المسلمين، بدليل هذا التغير الكلي من دعم الثورة السورية في بداياتها الأولى ضد نظام الحكم الطائفي، إلى داعم له الآن بعد دخول تركيا في المعادلة عبر معارك الشمال السوري. ومن الواضح، بالنتيجة، أن أزمة الخليج المفتعلة، التي أيقظتها الحزازات السياسية البليدة، لم تترك دول الحصار أي فرصة للوباء لكي يكسر الحصار على قطر، بل كادت مشكلة العالقين البحرينيين الذين أجلتهم قطر من إيران أن تزيد الطين بلة، بعد أن تغلبت الحسابات السياسية عن القيم الإنسانية.
لقد فشل الفيروس المستجد في إحداث أي اختراقٍ في بنية الوباء العربي السياسي القديم الذي شتت شمل العرب طويلا في الماضي، ومنع اليوم أيضا أيا من أنواع التضامن الداخلي الحقيقي بين النظم العربية والمعارضات الداخلية المختلفة، كما فشل في إيجاد التضامن العربي العربي المطلوب بين دول غنية ودول فقيرة تجد نفسها اليوم تواجه مصيرها وحدها، بعد أن تغلبت الأحقاد والإيديولوجيات على الفيروس وما يشكله من مخاطر، حتى بتنا نرى أطرافا معارضة تتمنى لو تفشل أنظمتها في كبح الوباء، ليكون لها طريقا إلى منصات الحكم، ونرى دولا عربية تتمنى في قرارة نفسها لو أن الفيروس يضرب دولا عربية منافسة لها أو تناصبها العداء.
بهذا الشكل تسير الخلافات العربية العربية، وتختنق المنطقة بالخلافات العلنية والسرّية، بأسوأ مما يختنق العالم بفيروس كورونا، وإذا ثبتت الأخبار التي تحدثت عن تزويد دولة خليجية الكيان الصهيوني بمعدات متطورة لمواجهة "كوفيد – 19" بينما رفضت ألمانيا ذلك، في وقت تعاني دول عربية كثيرة من توفير حتى الكمّامات لأطقمها الطبية المتواضعة، فإن الفيروس المستجد حتى وإن فشل في القضاء على الوباء القديم إلا أنه قد أسقط مع ذلك آخر أوراق التوت عن سوءاتٍ ظلت تخفي حقيقتها.
لقد بيّنت هذه الجائحة الكبيرة، للأسف، أن الجهات العربية تحديدا (دولا أو جماعات سياسية) 
التي تعودت على الاستثمار السياسوي لكل شيء، وحتى للأزمات والمصائب، لن تراجع خططها تلك، بعكس ما شوهد في دول أخرى، أين تمكن الفيروس المستجد من "تجميد" هجمات المعارضات الداخلية، ولو موقتا، ضد حكوماتها، خصوصا في إيطاليا وإسبانيا، ومن إيجاد بيئة جديدة معقمة في العلاقات الدولية الجديدة، قبلت فيه أميركا مساعدات روسية، ونزل فيه ترامب من عليائه، ليعترف بعظمة الصين.
هل سيمْكننا، نحن العرب، أن نتقدم خطوة إلى الأمام، بعيدا عن أحقادنا القديمة وحسابات الربح والخسارة التقليدية في ظل هذا الخطر الوجودي الذي تعاني منه الإنسانية اليوم؟ في الإجابة شكوك كثيرة. ويكفي، ونحن نعطي المثال الجزائري نموذجا للتحليل، أن نؤكد أنه في ظل أزمة ثقة كبيرة، حتى والبلد في وضع الكارثة التي نشهدها اليوم، يرفض بعضهم الترحم على الضحايا، لأنهم من الطرف الآخر، كما يعمد آخرون إلى تسييس حتى المساعدات الإنسانية، واعتبارها أدوات "قذرة" في أيدي المجرمين والفاسدين القدامى.
وتكفي الإشارة، في النهاية، إلى أن أزمة دبلوماسية تكاد تندلع بين الجزائر وفرنسا، في أوج أزمة كورونا، بعد استدعاء الخارجية الجزائرية السفير الفرنسي في الجزائر، كزافيي دريانكور، بسبب أصوات وصفتها الجزائر بأنها "بغيضة" تروّج أكاذيب في الإعلام الفرنسي، بشأن الطريقة التي تعالج بها السلطات الجزائرية أزمة كورونا، ووجهة المساعدات الصينية تحديدا.. ذلك أن الأصوات الداخلية والخارجية نفسها التي ظلت تستهدف المؤسسة العسكرية الجزائرية، منذ أكثر من عام من عمر الحراك الشعبي من الخارج، وجدت فرصتها في ترويج الإشاعات والأكاذيب، من قبيل أن العسكر هم من يستولون على المساعدات الطبية الموجهة إلى المدنيين.
ربما احتاج هذا الفيروس المستجد أن يضرب أولا قلاع الوباء العربي القديم، حتى نتمكّن، نحن العرب، من أن ننجز "هدنة سياسية"، تذكّرنا أولا بعروبتنا وفرضية التلاحم في مثل هذه الأزمات، أو على الأقل تذكّرنا بإنسانيتنا التي تفرض ترك الخلافات جانبا، والاشتغال، ريثما تمر هذه الجائحة، بإنقاذ الحياة.
133E9202-5916-4876-BAE6-293DD70280C0
حسان زهار

كاتب وإعلامي جزائري، تولى رئاسة تحرير صحف جزائرية يومية وأسبوعية