العراق: حمّى الشائعات وفوضى الخيارات

العراق: حمّى الشائعات وفوضى الخيارات

03 ابريل 2020
+ الخط -
تحيط بالعراق والعراقيين سيول من الشائعات السياسية والعسكرية، وأيضاً الصحية (بعد انتشار فيروس كورونا)، من دون أن تثبت الوقائع لاحقاً تحقق أيٍّ منها. ولعل هذا الأمر ليس جديداً، قدر تحوله من إشاعات موسمية أو حدثية، كمواسم الانتخابات، أو تلك المرتبطة بمقتل شخصيات من هذا الطرف أو ذاك، وأيضاً بما تتعرّض له القواعد الأميركية في العراق، بين حين وآخر، من هجماتٍ صاروخيةٍ أطلقتها مجاميع موالية للحرس الثوري الإيراني إلى إشاعات مركزة حول أمر واحد وبصيغ متعدّدة.
والإشاعة تعريفاً، هي خبر أو مجموعة أخبار زائفة، تنتشر في المجتمع بشكل سريع، وتُتداول بين العامة، ظناً منهم على صحتها، وغالباً ما تكون هذه الأخبار مشوّقة ومثيرة لفضول المجتمع والباحثين، وتفتقر عادةً إلى المصدر الموثوق الذي يحمل أدلة على صحة هذه الأخبار. والإشاعة أنواع كثيرة، منها البطيئة (تروّج ببطء) والسريعة (سريعة الانتشار سريعة الاختفاء) والاستطلاعية (لاستطلاع رأي الشارع) وإشاعـة التوقع (تتماشى مع رغبة الجماهير أو توقعها)، والخوف، والأمل. وبناءً على هذا، ينحسر واقع الإشاعات في العراق بالإشاعة السريعة وإشاعة الأمل، بسبب حالة عدم الاستقرار في المجتمع العراقي، وسوء الأوضاع الاجتماعية والأمنية والاقتصادية، والتي أدّت، بالضرورة، إلى وقوع أغلب العراقيين تحت أجواء ضغط نفسي كبير، وحالة من فقدان الأمل في الخروج من الأوضاع التي وضِعوا فيها منذ احتلال بلدهم عام 2003.
وبمراجعة ما ينشر في مواقع التواصل الاجتماعي للمشتركين العراقيين، وما يتبادلونه فيما بينهم من مراسلاتٍ وصور على "واتساب" تحديداً، فإن أغلب ما يُنشر من أخبار (إشاعات) تتعلق 
بقرب "الخلاص" من طريقة الحكم الحالية في بلادهم، ومن يحكمهم أيضاً؛ وكانت أداة التغيير المنشود في هذه الشائعات على الأغلب: تدخل أميركي من القواعد العسكرية الموجودة داخل العراق وخارجه، أو من خلال شخصيات عسكرية مثيرة للجدل، برزت مباشرةً خلال الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) الإرهابي بدعم أميركي.
لم تقتصر إشاعة التدخل الأميركي للتغيير في العراق على عامّة الناس، أو طبقة بعينها، بل سرت لتشمل بعض النخب السياسية داخل العملية السياسية أو معارضيها، وبات العراقيون يتبادلون رسائل "عاجل" من عناوين ذات وزن اعتباري عندهم، والغريب أن هذا "العاجل" سبق أن وصل إلى كثيرين منهم، قبل ذلك بأسبوع أو عشرة أيام، بالنص والإخراج نفسيهما. ومع تزايد حالات التعرّض لقواعد التحالف الدولي، والقواعد الأميركية، وخصوصاً بصواريخ الكاتيوشا وغيرها، رداً على اغتيال قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، والقيادي في الحشد الشعبي العراقي، أبو مهدي المهندس، وتخبط العملية السياسية العراقية في إيجاد مخارج لأزمة تكليف رئيس لمجلس وزراء العراق، بدلاً من عادل عبد المهدي (المستقيل المستمر) منذ الأول من ديسمبر/ كانون الأول 2019، وتشظي البيت السياسي الشيعي في قبول ورفض مرشحين من داخله، مع كل هذه التطورات السلبية، وجدت الإشاعات مرتعها الخصب للانتشار، بحسب رغبة مطلقيها وتخطيطهم، وهم غالباً من دوائر المخابرات بكل أنواعها ومرجعياتها في العراق الجديد وخارجه.
من تلك الشائعات وحجم تغلغلها في الإعلام العربي، تحديداً، ذكرت صحيفة الجريدة الكويتية، عن مصدر في فيلق القدس الإيراني قوله، إن "الحرس الثوري والفصائل الموالية له بالعراق، وفي مقدمتها هيئة الحشد الشعبي، أعلنت حالة التأهب بجميع القوات؛ تحسباً لانقلاب عسكري يدبّره الأميركيون للسيطرة على السلطة في بغداد". ونسبت الصحيفة إلى المصدر قوله إن "التركيبة السياسية الموجودة بالعراق لا تسمح للأميركيين بوصول رئيس وزراء موالٍ لهم إلى السلطة، إلا في حال وقوع انقلاب عسكري موالٍ لواشنطن للسيطرة على السلطة". وطبعاً، توحي ديباجة الخبر (من مصدره وليس من الصحيفة الناقلة) لقارئه بدقة المعلومات وحتمية وقوعها.
في الطرف الآخر من الموضوع، الولايات المتحدة، يبدو أن إدارة الرئيس دونالد ترامب ليست في وارد كل هذه التفاصيل، على الأقل بالشكل الذي تحاول إشاعات الحرس الثوري الإيراني والمخابرات العراقية تكريسه في المشهد العاطفي والوجداني العراقي، ففي هذا الصدد، قالت كيرستن فونتنروز، مديرة مبادرة سكوكروفت لأمن الشرق الأوسط في المجلس الأطلسي، وهي مسؤولة كبيرة سابقة في مجلس الأمن القومي الأميركي، قالت لصحيفة واشنطن بوست إن المخاوف المحلية الأميركية ستؤدي دوراً مهماً، وأضافت: "أفترض أن الرئيس سيقول: لست على استعداد للتصعيد، لبدء شيء ما في عام الانتخابات، بينما فيروس كورونا في البلاد".
موضوع آخر، بدا ملعباً نموذجياً لشائعات تخص موضوع "الانقلاب المزعوم"، يتعلق بالمناورات المشتركة بين قوات المارينز الأميركية وقوات النخبة لدولة الإمارات، على الرغم من مخاوف المنطقة والعالم من انتشار فيروس كورونا. اللافت فيها أنها نفذت في قاعدة الحمرا الإماراتية، وشهدت محاكاة للاستيلاء على مدينة مترامية الأطراف، تحوي مباني كبيرة ومساكن ومركزعبادة كبيراً ومطاراً ومصفاة للنفط، قالت عنها إيران لاحقاً إن هذه المدينة هي نموذج لمدينة النجف (مركز محافظة النجف)، وخرجت تسريبات من قيادات في الحرس الثوري الإيراني تقول: "إن هذه العملية هي تدريب لعملية عسكرية أميركية في العراق تستهدف قلب نظام الحكم هناك".
وعلى الرغم من غرابة توقيت إجراء هذه المناورات فعلاً، بحسب رئيس تحرير موقع "بريكنغ ديفينس" المختص بالشؤون العسكرية، كولن كلرك، "بسبب حالة الاستنفار التي يعيشها العالم بسبب فيروس كورونا"، وعلى الرغم من تصريحات طهران الرسمية بأنها مناورات استفزازية، وكذلك فعلت فصائل ومليشيا عديدة في الحشد الشعبي في العراق، إلا أن قائد القوات الأميركية المشاركة في المناورة، العميد توماس سافاج، استغرب ردود الأفعال، وقال "أهي استفزازية؟ لا أعرف، نحن نعمل من أجل الاستقرار في المنطقة. لذا، إذا نظروا إليها باعتبارها استفزازية، حسناً، هذا أمر يخصّهم، هذا مجرد تدريب عادي بالنسبة إلينا، إنها مناورات وتدريبات روتينية تقام كل عامين".
وقد تلقى العراقيون هذه التناقضات الخبرية بشكل يرتبط، إلى حد كبير، بآمال كل جهة سياسية أو 
إثنية أو طائفية، وقبل أن يصوغ المغردون والفاعلون على وسائل التواصل الاجتماعي فرضيات الانقلاب الموعود، كلٌّ حسب توجهه ومرجعيته الفكرية والسياسية. كان هناك تمهيد من النخب لهذا الأمر؛ فصحيفة الأخبار اللبنانية كتبت: "إن ما يجري في العراق تحت ستار التظاهرات الشعبية هو خطة انقلاب رسمتها أميركا والإمارات والسعودية وأحزاب في كردستان العراق". كذلك تنبأ رئيس البرلمان العراقي السابق، محمود المشهداني، بأن "انقلاباً عسكرياً بقيادة الولايات المتحدة في العراق سيحدث في المستقبل القريب". وقال وزير النقل الأسبق، باقر صولاغ الزبيدي، إنه سيكشف قريباً عن "تفاصيل انقلاب في العراق".
ما زالت الحكومة العراقية تبحث عن رئيس لوزرائها، ومجلس النواب تحول من جديد إلى محاور فاعلة للتحكّم في المشهد الذي يقود إلى التخبط السياسي، طمعاً بمكاسب لكل جهة على حدة، والملف الأمني العراقي بين فوضى السلاح وتعدد المراكز الأمنية من دون قرار موحد يحكمها، والشعب في الداخل وفي المهجر يتبادل إشاعة (الأمل) بتغيير قادم، ولو كان عبر ضربات أميركية تُمهد لانقلاب يسيطر على البلاد، ويُقصي النفوذ الإيراني منها، لكن ما لا يجري حسابه بدقة هو دراسة سايكولوجية الرئيس الأميركي دونالد ترامب، فقد بات من عوامل كسبه أصوات الناخبين، كما كان سلفه باراك أوباما، نقد التدخل الأميركي العسكري المباشر في العراق عام 2003. فضّلَ ترامب سحب قوات بلاده من أفغانستان وسورية، وقلل إلى أبعد الحدود خطوط التماس مع أي طرف كان يشكل تهديداً للولايات المتحدة في العالم، ليكتفي بشنّ حروب اقتصادية تُكسب بلاده تريليونات بدل إنفاقها في حروب تقليدية. وهو يعرف جيداً أن الحالة في العراق لن تُعالج بتدخل عسكري من قواته، فهذا بالضبط ما تُريده إيران ووكلاؤها هناك، وهو يعلم أن مصدر هذه الشائعات في مجملها مطبخ المخابرات الإيرانية، ليُحقَن الشارع (الشيعي) العراقي بدماء الغضب والوعيد ضد أميركا، وليدفع القوى الراغبة بالتغيير في العراق، ومنها جموع المنتفضين في هبّة أكتوبر، إلى الركون، بانتظار ساعة الفرج التي سيأتي بها المارينز الأميركي، وهو ما لن يأتي أبداً.
F51601CD-AABE-44C5-B957-606753EEC195
فارس الخطاب

كاتب عراقي مقيم في لندن