إنهم يقتلون الخيول ..

إنهم يقتلون الخيول ..

03 ابريل 2020
+ الخط -
يُقال عن الخيل إنها تتألم ولا تنكسر، تحزن ولا تُشهر حزنَها. تُرى، أيّ حالٍ كانت عليه الخيول التي أماتت غاراتٌ سعوديةٌ منها سبعين وجرحت مائة، في صنعاء، كلها عربيةُ أصيلةٌ كما ذاع في الخبر الذي مَرَقَ عَرضا قبل خمسة أيام؟ تُراها ناحت بحشرجات صهيلٍ مبحوح؟ كيف صارت "أعناق الجياد النافرة" (عنوان مجموعة شعرية للفلسطيني فواز عيد صدرت في 1969)، لمّا استأسدَت عليها صواريخ عمياء، في غضون التي يسمّونها حربا، وهي قتلٌ فحسب؟ هل كانت على الجياد أسرجتُها؟ والعرب القدامى كانوا يحاربون وهم على سروج الخيل، وإنْ أحسن المتنبي عاليا في بيتٍ شعريٍّ جعل الخيل فيه من دون سروج، في مشهد القتال: .. 
لجيادٍ تدخُلْن في الحربِ أعرا/ ءَ ويخرُجْنَ من دمٍ في جلالِ. ..
خيلُ المتنبي هنا تدخل الحرب عاريةً من السرج والجلال، ولكنها تخرجُ منها تلبس جلالا من الدم الذي جفّ عليها. لا يتّضح في صور الخيول القتيلة في صنعاء، والتي طيّرتها وكالة أنباء يمنية، أن دمها كان جافّا، وهي التي لم تكن في حرب. ربما كان ساخنا، فالمذبحة السعودية المستجدّة هذه اعتمدت نيرانا غادرة، غافلت الأحصنة التي كان الظن أن مُقامَها آمن، فالجبناء وحدهم الذين يغافلون جيادا في غير ساحات النزال، ولم يكن هؤلاء في أخيلة أبي تمّام لما قال عن غيرهم: 
قومٌ إذا جلبوا الجياد إلى الوغى/ أيقنتَ أن السوقَ سوقُ ضِرابِ.
ليس ضِرابا ما جرى في الإسطبل الصنعاني، وإنما جريمةُ قتل، كما التي يواظب فاعلوها على ارتكاب مثلها في قتل يمنيين فقراء في بيوتهم في الجبال والوديان والقرى، والفاعلون في الإشارة هذه هم الطرفان المتحاربان. لم تكن الخيول في ساح الحرب، حتى تُحارَب. وكيف لها أن تُحارب صواريخ وقذائف ساحتُها السماء، والخيول عامّةً أوجز أمل دنقل القول عنها في قصيدة سمّاها "الخيول":
الفتوحاتُ في الأرض
مكتوبةٌ بدماءِ الخيول
وحدودُ الممالكْ
رسمتها السنابك ..
والعربية السعودية لمّا صارت رسَمت حدودَها السنابك، وهذه في معاجم العربية تعني أطراف حوافر الخيل، لمّا كان فرسانٌ يصنعون مقطعا من تاريخٍ استجدّ في صحارى العرب، قامت بعده المملكة التي نعرف، قبل نيّفٍ وثمانين عاما. والفروسية ليست شمائل تخصّ من يركبون الجياد وحدَهم، وإنما أيضا من يتحلّون بشمائل معلومة، غير التي في الذين بلا بصرٍ ولا بصيرة، وأدموا تلك الخيول في عاصمة اليمن. وفي الحديث النبوي "الخيلُ معقودٌ في نواصيها الخير حتى تقوم الساعة.."، والحديث الشريف يشرح في هذا، وله روايةٌ أخرى لمُسلم: "الخيرُ معقوصٌ بنواصي الخيل"، قال: فقيل له: يا رسول الله، بم ذاك، قال: "الأجر والمغنم إلى يوم القيامة".
لم يغنمْ قاتلو الجياد في الاعتداءات الصاروخية، في مساء صنعاني قبل أيام، سوى الهجاء الذي يحسُن أن يُرمون به، بالخسّة ونقصان المروءة، فيما الخيلُ لا نعرفها، في موروثنا العربي الكثير، وفي ثقافات أممٍ غيرِنا، إلا بالبسالة والعلوّ. ومن ملحٍ غزيراتٍ عند مولانا المتنبي، وفي شعره حضورٌ عظيم للخيل، أن الخيل تحبّ صاحبها (إذا كان هُماما ونبيلا...). إنها تطرَب بقدومه، ولولا الحياء لرقصت بفُرسانها:
طَرِبت مراكبُنا فخلْنا أنها/ لولا حياءٌ عاقَها رقصتْ بنا.
أما محبّة الفارس فرسَه فكثيرٌ في أدبنا القديم يجلوها. وفي أدبنا الحديث، أبدع صديقنا إبراهيم نصر الله في روايته المتينة "زمن الخيول البيضاء" (طبعتها الأولى 2007)، في بناء علاقةٍ، مشحونةٍ بجميل المعاني والإيحاءات في زمنٍ فلسطيني بعيد، بين الفرس فضّة وأهلها الذين تاهت عنهم، ولمّا عادوا إليها وعادت إليهم، خرجت في حلم أحد أبطال الرواية الكثيرين، فرسا سمّاها حمامة. وكان نصرالله قد اختار لمجموعته الشعرية الثانية اسمَها "الخيول على مشارف المدينة" (1980)، وهو عنوانُ قصيدةٍ في المجموعة، تخلو تماما من أي حضورٍ لأيِّ خيلٍ (!).
مذبحة الخيول التي فعلها المعتدون على الاسطبل اليماني تجيز الإجابة على السؤال الذي تنتهي به رواية الأميركي، هوراي ماكوي، "إنهم يقتلون الجياد.. أليس كذلك؟" (عنوان الفيلم الشهير أيضا)، ويوجّهه بطل الرواية قاتلُ زوجته بطلبٍ منها: إنهم يقتلون الجياد: أليس كذلك؟ تنتهي الرواية بلا جواب، ولكن الجواب تردّ به صنعاء: نعم.

دلالات

358705DE-EDC9-4CED-A9C8-050C13BD6EE1
معن البياري
كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965. رئيس قسم الرأي في "العربي الجديد".