المتغيرات العربية وانعكاساتها على القضية الفلسطينية..

المتغيرات العربية وانعكاساتها على القضية الفلسطينية .. ليس ردّا على معين الطاهر

20 ابريل 2020
+ الخط -
(ليست هذه المساهمة رداً على المقال الذي نشره، في "العربي الجديد"، الكاتب المهموم بتوثيق الذاكرة الفلسطينية معين الطاهر، في الأول من إبريل/ نيسان الحالي، تحت عنوان "نحو مشروع وطني فلسطيني مقاوم"، وانما تأتي، بما تنطوي عليه من أفكار واجتهادات متواضعة، لإثراء حوار أشمل حول المشروع الوطني، وتوسيع مدى النقاش الدائر حول ضفافه، وسحبه نحو جوانب أخرى من المسألة، المتقاطعة مع الطرح المعني بجدل المتغيرات في العالم العربي، وانعكاساتها على القضية الفلسطينية، لعل ذلك يستدرج مزيداً من المداخلات الجادّة من الكتاب والمثقفين المهمومين، بدورهم، بالشأن الفلسطيني، وبأسئلته الموجعة).
على مدى سبعة عقود وأكثر من زمن عربي حافل بالتطورات والحروب والانقلابات والأحداث الجسام في هذه المنطقة التي كانت مواضيعها محل اهتمام ومركز استقطاب للهموم والأضواء، لبعض من وقت الحكام والنخب والرأي العام، ظلت قضية فلسطين تحتفظ، معظم الوقت، بمكانتها المتقدّمة على رأس جدول العمل العربي الرسمي المشترك، بنداً دائماً على جدول الأعمال، وظلت تستأثر، في الوقت ذاته، بأوسع الاهتمامات والعواطف والسجالات من سائر القوى والأحزاب والفعاليات الوطنية والقومية والإسلامية، ومراكز الأبحاث ووسائط الإعلام الممتدة من المحيط إلى الخليج.
وإذا كان من الصحيح تماماً أن بعض الأزمات والتقلبات والحرائق التي نشبت مراراً في أطراف العالم العربي، في أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن، قد قلصت من اهتمام العرب، وأدارت وجوههم إلى مطارح جديدة عن قضيتهم المركزية الأولى، فإن من الصحيح أيضاً أن مركز الانشغالات العربية التاريخي هذا سرعان ما كان يعيد شد الأنظار وتوجيه الرأي العام، وتصحيح الاتجاه الرسمي العام، مرّة بعد مرّة، إلى القضية الفلسطينية، باعتبارها التحدّي الجامع، ونقطة التقاطع الكبرى بين الجهود المشتركة، العربية منها والدولية.
تود هذه المطالعة أن نلقي، من جهة أولى، الضوء على العلاقة التبادلية الملتبسة، بين وضعية الحالة الفلسطينية في طورها المتغير وحالة الوضع العربي المتقلب، وأن نضيء، من جهة ثانية، على ذلك الترابط الشديد بين المشروع الوطني الفلسطيني وفضاءات العمل العربي، وفق ما كانت تخلقه الحالة الفلسطينية من مضاعفات مختلفة على جوارها الواسع، وما كانت تتلقاه من نتائج، سواء إيجابية أو سلبية، على مكانتها الإقليمية، فضلاً عما كان ينتجه الجدل المادي والسياسي من ظلالٍ مختلطة، على راهن القضية الفلسطينية وآفاقها المستقبلية.
وباسترجاع بعض ملامح المشهد السياسي العربي، وفق ما صار عليه من انقسام لا سابق له، 
في مطلع عقد التسعينيات من القرن الماضي الذي افتتح بغزو العراق للكويت، وما تبعه من الحرب التي قادتها الولايات المتحدة الأميركية على العراق، ومن ثم انعقاد مؤتمر مدريد للسلام عام 1991 وما تلاه من مفاوضات واتفاقيات، ساد شعور عام، في ذلك المفصل الحزين من زمن العرب الحديث، حسٌّ ثقيلٌ أننا نرزح جميعاً تحت وطأة مصيبة الانقسام والتشتت العربي ونتائج تلك الحرب الكارثية، بلا حاضنة عربية دافئة، أو سند يعتدّ به، فيما كان يستبدّ بنا عدم اليقين إزاء ما كنا بصدده من مواجهة سياسية ضارية مع عدونا التاريخي، حيث كنا نغالب، بصعوبةٍ شديدة، الشعور العميق بالترك والوحدة الموحشة.
ما بصدده هذه المساهمة هو إعادة التقاط خيط العلاقة التبادلية بين الوضعية العربية الانتقالية الراهنة والحالة الفلسطينية القائمة في هذه المرحلة الحرجة، لعلنا نستطيع، من خلال ذلك، الوصول إلى فهم أفضل، لكنه الاشتباك المتواصل بين هاتين الوضعيتين المتلازمتين، اللتين ظلتا تنتجان، بعلاقاتهما التبادلية، علائم الصحة وعوارض المرض، وتتجاوزان معاً، يداً بيد، سلسلة من اللحظات السياسية المتداخلة بينهما.
الوقوف أمام مكونات المشهد السياسي العربي الذي كان قائماً قبل نحو ربع قرن، واسترجاع بعض محطاته الأساسية في هذه الآونة، إنما هو بمثابة محاولةٍ لتشخيص معطيات مرحلةٍ مضت ولم تمضِ تماماً، مرحلة تمثل حقبة تبدل معظم لاعبيها ولم تتبدل هي في حد ذاتها، لا سيما وأن الأثر المتبادل بين ما كان عليه كل من الحال العربي والحال الفلسطيني آنذاك لا يزال حاضراً بقوة، ومرئياً بوضوح، ومستمراً من دون انقطاع، ففي إطار خصوصيات الوضعية الفلسطينية، يتجلى الانقسام السياسي الذي لم نعرف له مثيلاً من قبل، كتعبير مباشر عن انقسام عربي أوسع، سواء من حيث الأجندة أو الرؤية أو الخطاب المستند لتبرير الدوافع والأهداف والشعارات، التي لا تقيم اعتباراً لما درجنا على تسميتها المصالح الوطنية الفلسطينية العليا، والمصالح القومية المشتركة، حيث يبدو أن كلا الانقسامين، العربي والفلسطيني، قد باتا سمة رئيسة من سمات الحياة السياسية الفلسطينية والعربية الراهنة، فيما يبدو أن علاج الانقسام الأصغر مرتبط أشد الارتباط بمعالجة حالة الانقسام الأكبر.
كذلك فإن حالة الجمود والاستعصاء المهيمنة منذ مدة طويلة على عملية السلام المتعثرة، تتجلى، هي الأخرى، مظهراً من مظاهر حالة الضعف التي راحت تنتقل بعواملها المتبادلة، وتداعياتها السلبية المتقابلة، بين نطاقين سياسيين متداخلين، يستجيب كل منها للآخر بصورة 
تلقائية في الواقع العربي من جهة، وفي الواقع الفلسطيني من جهة أخرى، خصوصاً في حالة الانكفاء والتراجع التي أوغلت فيها إسرائيل رفضاً وتعنّتاً، وقارفت كل ما يحلو لها من توسعاتٍ استيطانيةٍ وتهويد للقدس، وهي مطمئنةٌ لضآلة أي رد فعل عربي أو فلسطيني يعتد به، فضلاً عن أي مساءلة دولية محتملة. إذ بقدر ما تزدحم الأجندة الفلسطينية بمصاعب وتحدّيات لا حصر لها، من مواجهة غول الاستيطان، وتعثر عملية السلام، وتفاقم حالة الانقسام، إلى جانب الحصار والتهديد بحربٍ وحشيةٍ محتملة في أي وقت، تزدحم الأجندة العربية بالدرجة ذاتها من الأولويات الوطنية الناجمة عن عمليات التغيير الجارية في زمن الربيع العربي، من مصر وتونس، إلى اليمن وليبيا والبحرين والسودان، إلى لبنان والجزائر والعراق وغيرها، وهو الأمر الذي نال وسينال كثيراً من مركزية قضية فلسطين وأولويتها لدى العرب، لصالح الاهتمامات والمستجدّات والمتغيرات والتحديات المقبلة.
وإذا كان هناك مثال واضح على ترابط الحالة الفلسطينية الراهنة مع حالة الانقسام والضعف العربي المزمنة، فإن مآلات مبادرة السلام العربية المعتمدة في قمة بيروت عام 2002 تقدّم أسطع برهان على ذلك كله، ليس فقط لجهة انعدام القدرة العربية على وضع هذه المبادرة في مكانها على أجندة الدبلوماسية الدولية، وإنما كذلك لجهة دفعها إلى منصّة الرأي العام الدولي والإسرائيلي المخاطب بها أساساً.
وبالانتقال من حيز التشخيص التاريخي العام لتلك العلاقة التفاعلية، بجانبيها الإيجابي والسلبي، إلى فضاءات اللحظة السياسية الراهنة، بكل ما تنطوي عليه هذه اللحظة من انسدادات وممكنات متقابلة، فإننا نجد أنفسنا في الدائرتين المتداخلتين في أكثر من موضع واحد، أمام التحدّي نفسه الذي أحدق بنا من قبل، بل أمام مفترق الطرق نفسه الذي وقفنا عليه فيما مضى منذ زمن بعيد، نواجه المخاطر والاستحقاقات والتبعات التي تخلقت في رحم مرحلةٍ كانت ولا تزال مفتوحةً على أشد الاحتمالات غموضاً، وأكثرها مصيرية في الواقعين العربي والفلسطيني.
ومن غير أن نذهب بعيداً في الإجابة المرجّحة عن الأسئلة المشفوعة بالقلق، في ظل "واقع عربي انتقالي"، ونمضي إلى توضيح تلك التبادلية القائمة بين محدودية الخيارات المتضائلة أمام الواقع السياسي الفلسطيني وبين هشاشة الأوضاع ومحدودية التأثير وقلة البدائل المتاحة أمام النظام العربي، نعيد طرح سؤال "ما العمل" لعلنا نتمكّن من إجراء تقدير صحيح للموقف العام، والوقوف من ثمّة على فهم أفضل لمسببات كل هذه التراجع والرخاوة، وبالتالي فهم علة هذا الحال من التخبّط والارتجال والانقسام، في منطقةٍ حبلى بالمفاجآت العنيفة والتطوّرات الدراماتيكية المباغتة.
وليس من المبالغة القول إن الرهانات الملتبسة في هذه المرحلة العربية، أو قل في هذه المرحلة 
الانتقالية القائمة، بكل ما أفضت إليه من انقسام وضعف، هي الرهانات ذاتها المتجلية في حالة الانقسام الفلسطينية الآخذة في تغذية نفسها بنفسها مع مرور الوقت، حيث يبدو أن ما يعيق دروب المصالحة الوطنية منذ أمد، ويحول دون استعادة وحدة الصفّ الوطني الفلسطيني، هو ذلك الرهان على أن الوضعية العربية الراهنة ليس مقدّراً لها أن تطول أكثر مما طالت زمنياً، وأن متغيراتٍ قد تكون مواتيةً أكثر لإجراء المصالحة على أساس من المستجدّات التي قد تتمخض عن حالة المخاض العربي والإقليمي المتفاعلة. بينما المتمسّكون بالمشروع الوطني الفلسطيني الاستقلالي الذين يواجهون المخطط الإسرائيلي، وبرنامجه المعادي بيدين عاريتين، يراوحون مع أطراف إقليمية ودولية في المكان ذاته، ما يعطل إتمام المصالحة وإنهاء الانقسام الذي لم يعد أولوية الأولويات الوطنية.
السؤال الأهم، كيف يمكن للعمل الوطني الفلسطيني أن يسترد زخمه، وأن يحافظ على بوصلته السياسية، وأن يتجنب مزيداً من الانكشاف أمام تأثيرات العوامل الخارجية غير المواتية، بما في ذلك تأثيرات هذا الواقع الانتقالي العربي المفتوح على كل الاحتمالات والتطورات والمفاجآت، لا سيما بعد الزلزال الناجم عن تفشي وباء كورونا، الذي يبدو أنه لحظة انقلابية فارقة بين زمنين؟ لعل الدافع إلى طرح هذا السؤال المباشر ناجمٌ، في الأساس، عن إدراك فلسطيني قوامه أنه، في ظل هذه الأوضاع المثقلة بأحمال إضافية، وبمخلفات أوضاع سلبية تراكمت، منذ عقود طويلة، فإن القضية الفلسطينية التي تخسر من مكانتها المتقدّمة، أكثر فأكثر، على رأس سلّم الاهتمامات العربية، سوف تتعرّض إلى خسارة أكبر مع استمرار تبدل الأولويات على الأجندة العربية والدولية، مع انهيارات ما بعد كورونا.
والحق أنه على الرغم من إيماننا الذي لا يتزعزع بأهمية العامل العربي ومركزتيه لنيل الحقوق الفلسطينية المشروعة، إلا أن ما يثير لدينا كل هذا القلق والتحسّبات، هو أن المشروع الوطني الذي نعضّ عليه بآخر ما تبقى في أفواهنا من نواجذ، أصبح يُنظر إليه في الجوار كجمرة متّقدة، تحرق أصابع كل من قد يتجرّأون على لمسها، إن لم نقل إنه صار مملاً لذوي القربى، المهمومين بشؤونهم وشجونهم الداخلية.
على هذه الخلفية، وفي نطاق تشخيص عوامل الضعف الذاتي المؤثرة بقوة على وتائر توازن الوضع السياسي الفلسطيني في إطار واقع عربي انتقالي، يصبح القلق الذي يستبدّ بنا، في هذه 
الآونة المفتوحة على كل الاحتمالات، قلقاً مشروعاً لا مناص من التعبير عنه، ليس من خلال لعن الواقع وذمّه، أو إحالة مخرجاته غير المواتية إلى نظرية المؤامرة الشهيرة وشياطينها، وإنما من خلال إعادة تقويمه بعناية وهدوء شديديْن، تمهيداً لإعادة التموضع فيه بصورة مختلفة، وربما على نحو معاكس تماماً لذلك الموضع الذي ارتضيناه لأنفسنا طوال الفترة الطويلة السابقة.
ولا يتضمن هذا الطرح دعوة إلى الانقلاب على الماضي وتأثيمه، أو الاستجابة بذعر وتطير لما يتلبد في الآفاق العربية من تحولاتٍ ومخاطر واحتمالات سلبية، وإنما يتضمن إلحاحاً شديداً على ضرورة إجراء المراجعات المتأنّية، واستكشاف البدائل المتاحة، وإعادة فحص الأدوات الكفاحية المعتمدة، وتطوير الخطاب السياسي المتداول بنمطية، فضلاً عن بذل كل جهدٍ ممكنٍ لتعزيز سويّة الروافع الكفاحية الممكنة، وتدوير زوايا الأزمة الذاتية الحادّة، وإنتاج ما يتيسّر من مخارج ظرفية ملائمة، حتى وإن كانت مخارج جزئية تتساوق مع هذه اللحظة الانتقالية العابرة في الحياة السياسية الراهنة.
إذا ما فعلنا ذلك بكل موضوعية وصراحة، ومن دون تردّد أو تسويف إضافي، ووضعنا برنامجاً عملياً وخريطة طريق تستند إلى موقف وطني موحد لا لبس فيه، فإن من المرجّح استعادة القدرة، في وقت ملائم، على تجاوز الأزمة الآخذة بالتصاعد على مستوى المنطقة، ورسم خطة تحرّك فعّال، وإجراء حراك سياسي شامل على الصعد الداخلية الوطنية والإقليمية والدولية كافة، للإبقاء على القضية الفلسطينية في مكانها المتوسط على جدول الاهتمامات العربية والدولية.
بكلام آخر، علينا في هذه المرحلة المبكرة من زمن التحولات العربية والدولية الشاملة، والمتسارعة بوتيرة عالية، والمفتوحة على كل الاحتمالات، أن نتبيّن بأنفسنا على أي أرضيةٍ نضع أقدامنا، وما هي الاستحقاقات التي قد تترتب علينا، والانعكاسات الضارّة بنا، التي علينا أن نتفاداها، وأخذ الاستخلاصات الأولية التي من الواجب التقاطها والبناء عليها، فضلاً عن التحولات الذاتية الطوعية التي لا مفرّ من القيام بها اختيارياً، قبل أن يتم فرضها علينا بقوة 
الجبْر والإملاء.
وقد يمرّ وقت طويل قبل أن نمتلك الإجابات الشافية عن الأسئلة المقلقة، غير أن حراجة الوضع الذاتي الفلسطيني، وما يتسم به من انكشافٍ شديدٍ أمام سائر المتغيرات الخارجية، بما في ذلك هذه المتغيرات عميقة الغوْر الجارية في العالم العربي من حولنا تحملنا حمْلاً على ضرورة إجراء كل ما يلزم من إعادة تقويم، والقيام بكل ما ينبغي لنا القيام به من مراجعاتٍ حصيفة، ليس فقط لغربلة معطيات هذه اللحظة الفلسطينية المثقلة بتحدّيات مصيرية شاملة، وتبعاتٍ تاريخية ثقيلة الوطأة على حاضرة فلسطين وغدها، وإنما كذلك لمقاربة مستقبلٍ كان ملتبساً، فزادته هذه التطورات التباساً عما كان عليه من قبل.
من دون مراء، نحن اليوم في عين العاصفة، ونحن كذلك على عتبة مرحلة جديدة من عمر نظام عربي شاخت هياكله القديمة، نقف حائرين قبالة استحقاقاتٍ موضوعية ما تزال في طور تشكلاتها الأولية، نترقب مآلات مخاضاتٍ إقليمية كبرى، وننظر إلى ما حولنا، ذات اليمين وذات الشمال، فنجد أن الاصطفافات القديمة قد تبدّلت، أو أنها في طريقها إلى التبدّل عما قريب، وأن التحالفات السابقة بدأت تتغير، وأن الرهانات المعلقة بعيداً عن متناول اليد قد نأت عن سواعدنا أكثر من أي وقت مضى، فعلى أي جانب نميل، وكل الجوانب رماح مسننة ورؤوس حرابٍ مشرعة؟
ولعل أول المقاربات الموضوعية وأكثرها مباشرة لواقع عربي تجري عملية واسعة لإعادة تشكيله من جديد، وتتواصل تفاعلاته المقدّر لها أن تتمخض عن نظام مغاير، إنْ لم نقل عن نظام بديل، تقودنا إلى ملاحظةٍ مفادها بأن الاحتمالات لا تزال مفتوحة على شتى الخيارات المتعادلة، وأن وقتاً لن يكون قصيراً سوف ينقضي إلى أن ينبلج هذا الليل العربي عن صبحٍ جديد، وأن مفترقات طرق وتقاطعاتٍ عديدة، أكثر إشكالية مما كانت عليه سابقاً، تقف لنا بالمرصاد على طول الطريق الموحش الطويل أمام كل عابر سبيل لا رفيق له.
غير أنه يمكن من دون إفراط في التطيّر أو الاطمئنان الشديد، ينبغي قراءة مكونات هذه اللحظة 
العربية المسكونة بالالتباس الشديد، بعقل بارد وسكينة فؤاد عميقة، ومن ثم افتراض تحولات أولية مبكرة، ومنها على سبيل المثال:
أولاً: فقد الانقسام الذي شهده النظام العربي على أساس معسكري السلام والممانعة مبرّرات قيامه وفقد دوافعه، بل وحتى تقوضت أركانه المحورية، الأمر الذي قد يفتح الباب واسعاً، بالضرورة الموضوعية الصارمة، أمام إعادة اصطفاف عربي جديد على أسس جديدة وقواعد خطاب مغايرة، نحن قبل غيرنا في أمسّ الحاجة إليها فعلاً، كون الانقسام الفلسطيني القائم واحداً من تجليات حالة الانقسام العربي الأشمل.
ثانياً: الأجندات الداخلية لسائر الأقطار العربية سوف تكون، إلى أجل غير معلوم، مزدحمة بهموم واهتمامات ذاتية كثيرة، ومشكلات اقتصادية، وتحدّيات مصيرية ملحّة، تخاطب حاضر أنظمتها ومستقبل كياناتها المدعوة إلى التساوق مع متطلبات هذه المرحلة اللزجة، الأمر الذي من المقدّر له أن ينأى بهذه العواصم، أو بعضها، عن الاهتمام بما درجت عليه سابقاً فيما يخصّ فلسطين والقدس والعملية السلمية، إلى أن تنقضي فترة التحول التي قد تطول إلى أجل غير معلوم.
ثالثاً: الرهان على دور عربي مركزي مغاير عما كان عليه في العهود السابقة يكاد يكون رهاناً في غير محلّه، وأن وقتاً طويلاً سوف ينقضي، قبل أن تلملم هذه الدولة القاعدية أو تلك أوراقها، وتعيد بناء هياكلها وتجديد نظامها، لتعود دولةً ذات دور إقليمي فاعل، يمتلك كامل مواصفات الرافعة القومية القادرة على إعادة بناء موقف عربي مؤهل، وقادر على الاستجابة للتحدّيات الجديدة بقدرة ذاتية كفؤة.
رابعاً: قوى التغيير الأساسية المتصدّرة للمشهد الراهن في الوطن العربي، وهي قوى وطنية مدنية من فئات عمرية شابّة، ليس لها هويات سياسية مبلورة، حيث رفعت في مجموعها 
المطالب الاجتماعية والاقتصادية، في ملفات الإصلاح والتحديث والديمقراطية والتداول السلمي للسلطة، ما قد يبعدها، ولو لمرحلة مؤقتة، عن الانخراط المأمول به في القضايا القومية العامة، وفي مقدمها القضية الفلسطينية.
خامساً: التغييرات الجارية والمستمرة في شموليتها، في بلدان عربية عديدة، شرقاً وغرباً، قد تفرض تغييرات في النظام الإقليمي العربي الذي تمثله جامعة الدول العربية، وقد تنهيه تماماً، أو قد تنقله إلى مصاف نظام إقليمي جديد ربما يكون أكبر مساحة، وأكثر شموليةً مما هو عليه الآن، ما يستدعي التنبه إلى انعكاسات دور دول الجوار، تركيا وإيران، على القضية الفلسطينية ومركزيتها، فضلاً عن استحقاقاتها المؤجلة.
سادساً: تستدعي رقابة دقيقة لأوضاع الأحزاب والقوى العربية المتآكلة التنبه إلى لأوضاع الفصائلية الفلسطينية جيداً، تلك المؤتلفة في مؤسسات النظام السياسي الفلسطيني، حتى لا تواجه هذه القوى ما واجهته الأحزاب العربية الحاكمة من مصائر بائسة، ما يقتضي ضرورة مضاعفة التنبه إلى مكانة الأجيال الشابة، وإلى دورها المتزايد وخطابها العصري الذي يلقى صدى واسعاً داخل العالم العربي وخارجه.
إزاء ذلك كله، فإن مقاربة اللحظة السياسية الراهنة بموضوعية، بما تنطوي عليه من انكفاء، وما يسودها من خلل مروّع، ويكتنفها من مخاطر هائلة، تقودنا إلى استنتاجٍ مفاده بأن هذه ليست لحظة مواتية لطرح مشاريع كبيرة، ولا للتحليق في فضاءات بعيدة عن أرض الواقع الموصوف آنفاً، لا سيما وأن أشدّ ما يحتاجه الحال الفلسطيني في هذه الآونة، ليس أكثر من الصمود والمقاومة المدنية، والتمسّك بالثوابت الوطنية، جنباً الى جنب مع التمكين على كل صعيد متاح، ولدى سائر الفئات الاجتماعية، مع مراكمة القدرات الذاتية رفع سوية الأداء اللازم لمواصلة الصراع بأدواتٍ ملائمة للظروف الحالية، فضلاً عن التعايش مع الانقسام بدل تأجيجه، إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي