العالم خارج الغيتو

العالم خارج الغيتو

18 ابريل 2020
+ الخط -
على الرغم من أن مسلسل Unorthodox الذي عرض على شبكة نتفليكس يتحدّث عن طائفة الحسيدية اليهودية المتشدّدة التي يعيش أتباعها ضمن مجموعات منظمة، وغير قابلة للاختراق، فإن سياقه أكثر اتساعا من الطائفة المقصودة، بالتحديد، وإن كان كل ما في المسلسل يستند إلى طريقة حياة أفرادها وتعاليمها، فالمسلسل القصير (إنتاج أميركي ألماني) من إخراج الألمانية ماريا شريدر، وبطولة الإسرائيلية شيرا هاس، مأخوذ من سيرة للكاتبة ديبورا فيلدمان التي تنتمي إلى طائفة الحسيدية اليهودية الأميركية، وخرجت هاربة من الغيتو لتصل إلى برلين، حيث تعيش الآن مواطنةً ألمانية حرّة. 
كانت البطلة، إذن، تعيش في بروكلين ضمن غيتو خاص بالطائفة، واستطاعت الهرب إلى ألمانيا في التاسعة عشرة من عمرها، لتبدأ حياة جديدة، وتنضم إلى فرقة موسيقية، متنوعة في جنسيات أفرادها الجنسية وميولهم، والمتعايشة برحابة، حيث نرى الشاب العربي صديقا لفتاة إسرائيلية متعصّبة للفكر الصهيوني، ونرى الشاب النيجيري الأسود المثلي مع صديقه الأبيض، من دون أن يسبب ذلك حرجا أو استغرابا من أحد، لتكتشف أن العالم أكبر بكثير من طائفتها وتعاليمها، على الرغم من كل ما تم تلقينه لها، وتكريسه في لاوعيها من حاخامات الطائفة، وذكورها، ونسائها اللواتي يتقمّصن دور الحاخامات في العلاقة مع الفتيات الصغيرات، حيث ينحصر دور المرأة في إرضاء زوجها، وإنجاب مزيد من الأطفال، لتعويض ضحايا الهولوكوست، حيث الجنس للتناسل فقط. أما المتعة فهي محرّمة، على النساء بشكل خاص، على الرغم من طقوس التجهيز المقدسة التي يجب أن تخضع لها الفتاة ليلة عرسها، استعدادا للحظة تحوّلها إلى وعاء لإنجاب أطفال، يجعلون الطائفة في حالة استمرار أبدي.
يركز المسلسل على حجب المعرفة، فطائفة الحسيديين تحرّم على أفرادها استخدام الكومبيوتر وأجهزة الهاتف الحديثة والتلفزيون، وتحرّم على النساء الغناء والتعليم والقراءة، أو ممارسة أي نوع من الفنون؛ إذ يدرك الحاخامات أن التواصل مع العالم، عبر هذه الوسائل، سوف يولّد معرفة لدى الأجيال الجديدة، والمعرفة تولّد الشك، والشك يولّد الأسئلة، وهي بديهية تدركها البطريركية الحاكمة للطائفة جيدا، الأسئلة سوف تولد محاولات إيجاد الأجوبة، وهو ما ليس متاحا داخل غيتوات الطائفة. الأجوبة دائما في العالم الخارجي، في المساحات الأخرى، الأكثر امتدادا واتساعا من محيطنا المكاني والنفسي والمعرفي. هذا ما يجعل المنظومات المستبدّة، الدينية والسياسية، قلقة دائما من الوعي المعرفي لدى أفراد مجتمعاتها، وهذا ما يجعل من الجهل والتخلف والانحياز لغريزة القطيع التي يمكن للإشاعات التي تبثها وسائل الإعلام، أو الثرثرة في المجتمعات الضيقة، أن تؤججها، لتتحرّك وفق تعاليم الحاخام أو البطريرك أو المفتي أو الزعيم، بما يكفل بقاء سيطرته الأبدية.
لفت نظري يوما تعليق لشاب أعرفه، يشكر فيه القدر الذي جعله يبقى في بلدته الصغيرة! استغربت كيف يمكن لشابّ، في مقتبل عمره، أن يكون ممتنّا لما يجعله لا يرى العالم، أن يقتصر طموحه على أن يعيش ويكبر ويموت حيث هو! حالة هذا الشاب ليست استثناء، فالخروج خارح المحيط لا يستدعي الأسئلة فقط، بل الخوف أيضا، خوف اكتشاف ما نجهله، ما يمكنه أن يخلخل حالة استقرارنا النفسي الذي تكرّس بفعل الاتكال والتسليم والرضوخ، بفعل الجهل الذي تسببه عادات وتلقين منذ الطفولة في المجتمعات الأبوية والبطريركية السلطوية، ولا يغيّره الحصول على شهادات تعليم عالية في مرّات كثيرة، حيث يتغلب الموروث على العلم، ويتغلب الجهل على الوعي المعرفي، وتتغلب الاستكانة والركود على الطموح، ويتغلب الخوف على الرغبة بالاكتشاف.
قرّرت طائفة الحسيديين في أميركا وإسرائيل عدم الرضوخ لقرارات العزل الصحي الذي فرضه فيروس، وحاول أفرادها تنظيم تجمعات كبيرة في الشوارع، وقاموا بأفعال عنيفة في مواجهة قوات حفظ النظام، منها التف والسعال في وجوه أفراد القوات .. هل هم فقط من فعلوا هذا؟ معظم المتدينين، من كل الأديان والمذاهب، فعلوا الأمر عينه في وجه قرارات العزل الصحي، معتبرين أن انتماءاتهم الدينية كفيلةٌ بأن تحميهم من شر الفيروس، بعضهم ذهب إلى القول إن الفيروس مرسل إلى من يعتبرونه كافرا، بينما هم محميون بفعل إيمانهم.
بطلة مسلسل Unorthodox التي تعلمت العزف على البيانو سرّا كشف لها الفن عالما أوسع. هل ستتاح لكثيرين من أبناء الغيتوات، الدينية والسياسية، رؤية عالم أوسع من عوالمهم الضيقة التي لا تملك سوى عين واحدة للرؤية؟

دلالات

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.