إزاحة الثورة السورية إلى شريط حدودي

إزاحة الثورة السورية إلى شريط حدودي

17 ابريل 2020
+ الخط -
لا توجد أكثر من عبارة "الشمال السوري المحرّر" خداعًا للثوّار السوريّين، فمنذ بدء انحسار الثورة السورية تدريجيًا في العام 2013، ثمّ تعاظم هذا الانحسار نتيجة استراتيجية قضم المناطق وصفقات التسوية والتهجير منذ هزيمة حمص في 2014، ثم تصاعد وتيرة هذه الاستراتيجية في 2016 وما يليها، كانت إزاحة الثورة السورية إلى الشمال هو ما يُنجَز بالتدريج. ولكن الشمال هنا ليس إدلب كما كان يُظنّ، فبعد الهجوم البرّي الأسدي والقصف الجوّي الروسي على إدلب منذ ديسمبر/ كانون الأول الماضي، استطاع نظام الأسد الاستيلاء على مناطق من إدلب من جهة الشرق وجهة الجنوب، وأضحى ما تبقّى من إدلب في حوزة الثوار في تناقص. واستمرّ الطغيان الروسي الجوي من دون أن توقفه أي قوة أخرى، واستمر في إزاحة اللون الأخضر واستبدال الأحمر به. 
يلحظ متابع الخريطة السورية وتغيراتها الشديدة، بوضوح، أنّ لون الثورة الأخضر أُزيح تدريجيًا منذ عام 2016 إلى شريط حدودي شمالي مع الأراضي التركية. ويلاحظ كذلك أنّ هذا الشريط الحدودي الشمالي مع تركيا مستثنى من القصف الروسي الجوي والهجوم البرّي الأسدي. وقد أسهمت ثلاثة أحداث في إزاحة الثورة السورية باتجاه هذا الشريط.
أوّل هذه الأحداث تهجير المدنيين والمقاتلين من الجيوب الثورية التي عُزلت عن بعضها، وقُصف الواحد منها تلو الآخر، ثمّ أُخضع كلّ منها لاتفاق تسوية وتهجير باتجاه الشريط الحدودي في عامي 2016 و2017. كُثّفت عمليات التسوية والتهجير منذ أغسطس/ آب 2016 حين هُجّر من تبقّى من أهالي داريّا، ثم تعاقبت عمليات التهجير من الغوطة الغربية وحلب ووادي بردى والزبداني، وما تبقّى من جيوب ثورية صغيرة، وصولاً إلى التهجير من الغوطة الشرقية في مارس/آذار عام 2018، ثم استمر التهجير من الجيوب الخضراء الصغيرة، فلم يتبقّ إلاّ إدلب.
كان الشريط الحدودي الشمالي يفرّغ بالتدريج من اللون الأصفر، أي يفرّغ من سيطرة قوات 
سوريا الديمقراطية (قسد)، التي كانت قد انتزعته من سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، حين بدأت تركيا عملية "درع الفرات" (أغسطس/ آب 2016 – مارس/ آذار 2017) في منطقة غرب الفرات، بالتعاون مع فصائل ثورية سورية، استطاعت فرض سيطرتها على بعض مدن الشريط الحدودي الشمالي بعد إجلاء "قسد". وحين أُجلي آخر من تبقوا من أهالي داريا، كانت مدينة جرابلس الحدودية جاهزة لاستقبال المهجّرين. وحين استكملت عمليات التهجير في عامي 2016 و2017 غدت "الباصات الخضراء" تنتقل من داريا والغوطة الغربية ووادي بردى ومضايا والزبداني وبرزة الدمشقي والغوطة الشرقية والقلمون باتجاه جرابلس والباب وعفرين.
إذن، على الرغم من أنّ تركيا قد تدخلت بثلاث عمليات عسكرية، بالتعاون مع فصائل ثورية سورية (درع الفرات، غصن الزيتون، نبع السلام) تهدف كلها إلى نزع سيطرة "قسد" من الشريط الحدودي الشمالي الذي كانوا قد كوفئوا به على تعاونهم مع الولايات المتحدة لطرد تنظيم داعش منه، إلاّ أنّ هذه العمليات العسكرية الكبرى التي نُفّذت على مراحل قد تزامنت مع إنهاء الوجود الثوري في وسط سورية وجنوبها عبر عمليات القصف والتسوية والتهجير، فحين بدأ اللون الأخضر يكسو الشمال السوري، كان قد اختفى في الجيوب الثورية في وسط سورية وجنوبها، والتي قادت الثورة منذ يومها الأوّل.
إذن، ثاني هذه الأحداث هو العملية التركية الكبرى التي بدأت بـ "درع الفرات" في أغسطس/آب 2016، وثنّت بـ "غصن الزيتون" في يناير/كانون الثاني 2018 وثلّثت بـ "نبع السلام" في أكتوبر/تشرين الأول 2019.
ثالث الأحداث، القصف الروسي المستمر على إدلب، وقتال مليشيا الأسد الثوار على الأرض، 
وقضمها المناطق الجنوبية من إدلب تدريجيًا باتجاه الشمال. وهو القصف الذي استمر ببطء في الأعوام من 2017 إلى 2019، ثم تزايد بشدة في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، حين أعلن الروس والأسد عن "معركة إدلب الكبرى"، فحدثت موجة نزوح هائلة تقدّرها الأمم المتحدة بمليون نازح باتجاه الشريط الحدودي الشمالي. حاولت تركيا إيقاف هذه المعركة الكبرى التي تتحمّل تبعاتها، فتوغلت باتجاه الجنوب في إدلب، فقُتِل 36 جنديا تركيا في فبراير/ شباط الماضي. وأخيرًا توصل الرئيسان، التركي أردوغان والروسي بوتين، إلى اتفاقية وقف إطلاق نار في بداية شهر مارس/ آذار الماضي، لا ندري إن كانت ستنفذ بالفعل فيما ما تبقّى من إدلب، أم سيكون مصيرها مثل مصير اتفاقية سوتشي (سبتمبر/ أيلول 2018).
إذن "الشمال السوري المحرّر" ليس إدلب، بل هو الشريط الحدودي الذي حرّرته القوات التركية والفصائل الثورية منذ 2016، ليقوم بمهمة مزدوجة؛ منع القوميين الأكراد من إقامة كيان شبيه بالدول على الحدود التركية، واستيعاب الأعداد المتزايدة من النازحين السوريين. يذكّرنا هذا الشريط الحدودي بشريط قطاع غزة، ويذكّرنا بأنّ هذا النهج في طرد سكان الأرض وملاكها، واقتلاعهم وإزاحتهم إلى شريط حدودي، ليس فعلاً خاصًا بإسرائيل، بل يمكن أن تقترفه سورية الأسد وروسيا وإيران كذلك.
4FD1CF2E-2644-4CC1-8828-87204B0E3728
4FD1CF2E-2644-4CC1-8828-87204B0E3728
خديجة جعفر

كاتبة وباحثة مصرية، ماجستير في الفلسفة من الجامعة الأميركية في القاهرة.

خديجة جعفر