كورونا ومأزق السلطويات العربية

كورونا ومأزق السلطويات العربية

16 ابريل 2020
+ الخط -
تواجه السلطويات العربية تحدّيات جسيمة في ضوء المسار غير المطمئن لجائحة كورونا. ففي وقتٍ راهنت معظم هذه السلطويات على تدابير الحجْر الصحي العام، وحظر التجول، وإغلاق الحدود للحد من اتساع رقعة الوباء، لا يبدو أن هناك ما ينبئ بأن نهاية هذا الكابوس باتت وشيكةً، مع ما لذلك من تبعاتٍ يصعب حصرها. فاجأت كورونا الأنظمةَ، وكشفت قصورها الصارخ في تدبير الشأن العام، وأظهرت الثقوب الكبرى للإنفاق العمومي الذي يُوجَّه قسطٌ غير يسير منه نحو تغذية بنيات الاستبداد، سواء من خلال الاستثمار في قطاعَي الأمن والدفاع وما يرتبط بهما، أو شراء ذمم النخب وتدجينها، بما يوسع هوامش الريع والفساد، حفاظاً على التحالفات الاجتماعية التي تنبني عليها هذه الأنظمة.
وجد الاستبداد العربي نفسه أمام أعباء غير متوقعة، لم تكن في مقدمة أولوياته، ولكن تدويل خطاب الحجْر الصحي العام، باعتباره الوسيلة الوحيدة للوقاية من الوباء، منحه هامشا للمناورة، ووفر له حزمةَ أعذارٍ للتغطية على رداءة منظومة الصحة العمومية، وعدمِ استعدادها لمواجهة هذا الوباء، سيما أن أكثر الدول تقدّما باتت تترنح تحت رحمته، بعد أن أوشكت أنظمتها الصحية على الانهيار.
أصبحت أزمة كورونا، بالنسبة لهذا الاستبداد، فرصةً ثمينةً لاستخلاص عوائد سياسية كثيرة، مستغلا تصاعد المخاوف من تفشّي الوباء، وكأن لسان حاله يقول إن مواجهة هذه الأزمة تتطلب الصرامة والحزم في تدبير مختلف أوجهها الأمنية والاجتماعية، حفاظا على السلم، الأهلي والمجتمعي. وبذلك تغدو السلطويةُ وصفة مُثلى لمغالبة الجائحة وتداعياتها المختلفة، فإضافة إلى ما قد توفره كورونا من موارد لإنعاش الشرعية السياسية العربية المتآكلة، أصبح بالإمكان استثمارها في إعادة صياغة التدافع الاجتماعي والسياسي الجاري في المنطقة منذ 2011 بفرضِ المقاربة الأمنية، واستبعادِ خيار التحول الديمقراطي، وتقليصِ الحقوق والحرّيات، والتحكمِ في الفضاء العمومي، للحد من الاحتجاجات، وعودةِ الدولة العميقة إلى الإمساك بزمام الأمور من خلال شبكات نفوذها، سيما في العسكريتاريات التقليدية (مصر، الجزائر ..) ويزداد الأمر دلالةً في البلدان التي شهدت الموجة الثانية من الربيع العربي (الجزائر، لبنان، العراق)، حيث أربكت الجائحة حسابات الحراك الشعبي، ومنحت، في المقابل، الأنظمةَ هامشا لإعادة ترتيب أوراقها بما يُمكّنها من استغلال هذه الظرفية الاستثنائية، للتخلص من الحراك وتفكيك دينامياته.
بيد أن قرب انصرام الآجال التي حُدّدت لرفع الحجر العام وإلغاء حالة الطوارئ ورفع القيود أمام استئناف الحياة الطبيعية، ذلك كله قد يضع السلطويات العربية أمام مأزقٍ حقيقي، في ظل محدودية مواردها لوقف النزيف الاقتصادي والاجتماعي الناجم عن الجائحة، بعد أن فقدت فئاتٌ واسعة مصدر رزقها بسبب الحجْر. وإذا كان وضع البلدان النفطية يسمح، ولو إلى حين، بإدارة تناقضات هذه المعادلة، فإن البلدان الأخرى التي تعتمد، في مواردها، على السياحة والتحويلات المالية للمهاجرين قد تجد نفسها، في أي لحظة، أمام الحائط، بسبب افتقادها الخبرة الكافية في إدارة الأزمات والكوارث. فهي، أو معظمها، غير قادرة على تحمّل تكاليف قرار تمديد الحجْر الصحي إلى أجل غير مسمى، بسبب تركيبتها الاقتصادية والاجتماعية والأهلية والثقافية.
يُفاقم تردّي الخدمات الصحية العمومية هذا المأزقَ، ويفضحُ طبيعة الاختيارات الاجتماعية والسياسية التي تركن إليها السلطويات العربية، وهي الاختيارات التي لم تحظ فيها، يوما، هذه الخدمات، إلى جانب خدمات اجتماعية أخرى لا تقل حيوية، بما يكفي من اهتمامٍ كان يُمكن أن يُخفف، ولو قليلا، من أعباء مواجهة هذه الجائحة. ويأخذ هذا المأزق منحىً آخر بالنسبة للدول المنشغلة بحروب الثورة المضادة في المنطقة، إذ يبدو أن الجائحة تُربك مخططاتها في ظل تزايد أعداد المصابين وصعوبة الحركة أمام فيروسٍ غير مسبوق، تستحيل مواجهتهُ بالطرق التقليدية.
تتنامى مخاوفُ السلطويات العربية من تغيير مجرى التبعات الاقتصادية والاجتماعية لكورونا صوب تَشكُّل تحدياتٍ سياسيةٍ لا قبل لها بمنازلتها، ذلك أن مخاوفها من عدم قدرتها على الاستمرار في تحمّل أعباء الحجْر الصحي، تُوازيها مخاوفُ أخرى من أن يؤدّي رفع الحجْر إلى زيادة انتشار الوباء وفقدان السيطرة عليه، بما لذلك من تكاليف باهظة.