رياض الترك خارج المشهد السياسي

رياض الترك خارج المشهد السياسي

16 ابريل 2020
+ الخط -
انتظر السوريون المقابلة التلفزيونية مع رياض الترك بلهفةٍ. هو الرجل الذي قضى في زنزانةٍ منفردةٍ قرابة ثمانية عشر عاماً. عند مواليه هو مانديلا سورية، وعند الآخرين، وليس بالضرورة أن يكونوا من خصومه في السياسة، يُسجَل له تاريخُه النضالي ومعاداة الاستبداد، كما آلاف المعتقلين السياسيين، ومن الاتجاهات السياسيّة كافة؛ وسوى ذلك، هناك اختلاف في تقييم دوره في الحياة السياسية السورية، وأقلّه منذ المؤتمر الثالث للحزب الشيوعي السوري عام 1969. الرجل من مواليد 1930، وعاصر قرابة قرنٍ من تاريخ سورية، وبذلك يستحق النقد.
كان يُفترض برجلٍ لديه كل هذا التاريخ أن يُحضَّر للحوار معه جيّداً. ولكن حوار جيزيل خوري معه، في الفضائية البريطانية بي بي سي العربية، جاء ضعيفاً، ومن دون جهدٍ يُذكر، فتناول قضايا يعرفها أغلبية من يتابع شؤون المعارضة السورية. كان مأمولا أن يتطرّق إلى الأعوام الخمسين، أو إلى ما بعد العام 2011، بتحليلٍ وانتقادٍ وتوضيحٍ للمسؤول عن الإخفاقات. كرّر الترك كلاماً عاماً، وجاء خارج أطر التحليل السياسي، كلاما يصلح للدردشة الشخصية، ولا شيء أكثر. يستحق الرجل، مثل قياديين كثر في المعارضة السورية، أن يعاد لهم حضورهم، وأن تُجرى معهم حواراتٌ كثيرة، ولكن ليس كما جرى في برنامج "المشهد".
يعلم الجميع أنه كان لرياض الترك وحزبه دور مركزي في المجلس الوطني، وفي كل أطر المعارضة السورية ومؤسساتها، وفي إطار دهاليز العمل السياسي السوري المعارض، ومنذ
 1969، ولكن ذلك كله لم يُناقش؛ فإذا غاب هذا، ماذا يظل من رياض الترك، ومن مسؤوليته بشأن ما جرى، سيما بعد 2011؟ تمحور الحوار حول الحياة الشخصية واعتقال رياض الترك، وأصبحت القضايا التي ناقشتها المُحاورة مع المناضل المعروف نافلة القيمة بالمعنى العميق للكلمة. هناك دور للشخصيات، سيما القيادات، في تقرير أحوال السياسة والصراع؛ ولكن الحوار كان قولبة للأحوال تلك، ووفقاً للحياة الشخصية، بينما كان يُفترض أن يحصل العكس، وأن توجه له انتقادات دقيقة عن مسؤولياته بوصفه قياديّا في حزبه وفي المعارضة.
في ميدان المراجعات التي جرى بشأنها النقاش على هامش الحوار، أَبعدَ رياض الترك مسؤولية حزب الشعب الديمقراطي السوري في إجابته عن دور المجلس الوطني، حيث قال إن المجلس تألف من سبع قوىً. وفي إطار نقده دور الإخوان المسلمين، أوضح أن لديه مجرد ملاحظة، وكرّر كلمة ملاحظة مرات؛ فهل يُعقل ألّا تُحمّل تلك الجماعة مسؤولية كبرى عما آلت إليه أحوال المعارضة والثورة السورية. انتقدهم الترك في تفضيلهم العنف واحتكار العمل الشعبي وترجيح كفّة توجههم الإسلامي وغيرها. والسؤال هنا: أليست هذه القضايا كفيلة بتوجيه انتقاداتٍ للإخوان وللمجلس الوطني بشكلٍ أدق، وبعيداً عن الكلام المرسل، بل وأفاض: الثورة عمليّة تاريخيّة، ومعركتنا من أجل الديمقراطية طويلة، وما زال أمامنا الكثير الكثير. وهذا الكلام يعتبر هروباً من تحمّل المسؤولية، ورفضاً للدخول في أيّ نقاشاتٍ جادّة، تتناول أحوال المعارضة منذ 2011.
وددت لو أعلن رياض الترك استقالته من العمل السياسي، وقد أصبح تسعينياً، وليتفرّغ لكتابة المذكرات؛ من أجل إنصاف تجربته، ومن أجل الأجيال اللاحقة، وليستفيد منها من سيكتب التاريخ في المستقبل. أمّا أن يكون الحوار التلفزيوني كلّه وكأنّ الضيف ما زال في ريعان الشباب، وأن دوره السياسي ما زال قائماً، فهذا يعني أننا لم نستفد شيئاً من تجارب العالم، والتي تؤكد ضرورة التفرّغ تلك، والاستقالة من الحزب وترك السياسة للأجيال الشابة. وليس المقصود هنا هدر خبرة المناضل المعروف، أبداً؛ فيمكن أن يتحقق له ذلك، عبر الراغبين في العمل معه، وعبر تدوين مذكّراته. ورأينا هذا، لأن كل قدرات الرجل، كما ظهر في مقابلته التلفزيونية على شاشة بي بي سي عربية (3/4/2020) متراجعة، وهي حالة كل شخص في عمره، وبالتالي يحق للآخرين مطالبته بالتراجع عن المشهد، والاسترخاء، وبذلك يقدّم نموذجاً للقادة السياسيين وللتاريخ.
وإنصافاً لرياض الترك، وسواه، نقول: لا تسمح الشموليّة للأفراد، بالتشكّل الطبيعي، والتفكير السياسي الحر، وبالتأكيد تمنع كل أشكال الحريات والعمل السياسي والمشاركة السياسية. ربما يفسّر هذا السبب مواظبة شخصيات معارضة سوريّة عديدة، ولم تأخذ دورها في العمل السياسي الحر، وقد تجاوزت الثمانين عاما، على العمل السياسي، مع التوهم أنّها قياديّة أو قادرة على أن
 تكون قياديّة. نعم، تجربة سورية مريرة بما يخص كتلاً كبيرة من القوى المعارضة؛ فقد سجنت مددا طويلة، وهي فئات مهمشة كليّة، وليس لها أيّة حقوق مدنية. وفي ما يخص الإخوان المسلمين، هناك قانون خاص بهم، ويحكم عليهم بالإعدام! وبالتالي حتى الرعاية الطبيّة، لا تشملهم، فكيف ببقية الحقوق الأخرى؟ ليست قضية كهذه بسيطة، أنها تُشعِر المرء بأنّه ليس فرداً طبيعيّاً، وبالتأكيد ليس مواطناً، وأنّه أضاع عمره بلا جدوى، وبالتالي هذا ليس وطنه. وضمن هذا المنظور، يفكر كثيرون من أفراد المعارضة السورية، ويفهمون الدنيا. هم محقوق بذلك، ولهذا تركت الأكثرية البلاد، غير آسفةٍ. وهناك كثيرون تركوا البلاد كي لا يعتقلوا، وحينها سيكون الموت بانتظارهم، كما مئات ألوف الذين تظاهروا بعد 2011.
أُكرِهَ رياض على ترك سورية في العام 2018، ولأسبابٍ صحيّةٍ وسياسيّة، وكي لا يصبح عبئاً على حزبه، حيث صار التخفي مكلفاً. وقد لعب أدواراً كبرى، وكان بعضها غير إيجابيٍّ، ومنذ 1969، وبالتأكيد لا أقصد ضمن الحزب الشيوعي الرسمي، بل في إطار المعارضة التي طالبت بالديمقراطية والتحوّل السياسي، وكذلك ضمن حزبه ذاته، وبعد ربيع دمشق، وما بعد 2011. المقصد من ذلك أن الرجل لم يتكلم عن سلبيات كثيرة، شابت دوره السياسي، ودور حزبه، وكان في مقدوره أن يفتح صفحة جديدة، وحواراً ذكياً لو رغب بذلك، حيث برنامج المشهد يسمح بذلك. مضى على تهجيره عامان، وكان في وسعه الاستفادة منهما، وإعلان رؤية جديدة، وتوجيه انتقادات لمجمل دور المعارضة السورية، وتحميلها المسؤوليات. ولهذا ضرورته، بما أصبحت عليها أوضاعها حالياً، وضرورة أن يكون لها دور، وقد أصبحت سورية كعكة على موائد قادة العالم.
لم يخيب ظنَّ نقاده الجادّين به، وفضّلَ حواراً عن شخصيته المعروفة لمواليه، وبذلك نرى أن جيزيل خوري لم تكن موفقة في إحراج الرجل، في ما سلف أعلاه، بل كانت أقرب إلى مواليه.