اليقين واللايقين

اليقين واللايقين

16 ابريل 2020
+ الخط -
نواصل تأرجحنا بين اليقين واللايقين، ونحن نتابع أحوالنا العربية، وأحوال البشر عامة، أمام الأوبئة والحروب والكوارث التي نساهم اليوم، بطريقة أو أخرى، في حصولها. فأمام المصائب التي تأتي من زوايا مختلفة نُصَابُ بالْعَمَى، فلا نعود نُبصر شيئاً، ثم ننخرط في محاولاتٍ نتوخّى منها معرفة ما يجري أمامنا بهدف مغالبة آثاره. نتردَّد كثيراً قبل الحديث بلغة اليقين ومنطق الحتميات، خصوصا في التاريخ والسياسة، ونتردَّد أكثر لكي لا نلج أبواب اللايَقين. وقد دفعنا فيروس كورونا إلى الخوف، فتعطَّلت مؤقتاً بعض صور إيماننا العظيمة بفتوحات العلم والتقنية في حياتنا.
تزداد تأكداً من التأرجح القائم والمتواصل في حياتنا، وأنت تتابع تحوُّلات الراهن العربي، وتعاين الدهاليز المظلمة التي يترنح العرب اليوم في قلبها، بين خيارات ونزوعات أبعدتهم كلية عن الشعارات والآمال التي تغنت بها أجيال القرن الماضي، ولم نتمكَّن من الاقتراب منها، فأصبحت اليوم في صورة أفق بعيد المنال. ولا أريد أن أفسر ما حدث بما اعتدنا قوله في الأغلب الأعم، بسوء الحظ وتضافر العوامل الخارجية وحدها، ذلك أن مختلف المصائب التاريخية التي ألَمَّت بنا، في مختلف أوجه الحياة ومظاهرها، تتعلق، أولاً وقبل كل شيء، بسوء تقديرنا وتدبيرنا مصائرنا .. وإلا كيف نفسر النفور الذي أصبحنا ننظر من خلاله إلى جامعة الدول العربية، ومختلف مؤسسات العمل الإقليمي العربي؟ كيف نفسر جمود المؤسسات التي أنشأنا لننظر في صور خلافاتنا ومستقبلنا، ونرعى التضامن والتعاون في ما بيننا؟ لا يتعلق الأمر هنا فقط بمجلس التعاون الخليجي ولا باتحاد المغرب العربي، بل إنه يشملهما معاً، ويشمل كذلك المؤسسات الفرعية المرتبطة بهما. فلماذا ننشئ المؤسسات ونُنْفِق عليها، ثم نحولها إلى مجرد لافتةٍ لا نستطيع الاستغناء عنها، على الرغم من نفورنا منها؟
بدأ الحديث في العالم عن عالم ما بعد كورونا، وتقرأ آراء تجعلك تتعجب كثيراً من اليقينية التي
 أصبحت تحكم مواقف كثيرة في موضوع احتمال تحوُّلات النظام الدولي، وتتعجب لأولئك الذين يحلمون بأن تدفع تداعيات كورونا العرب إلى إعادة النظر في سياساتهم العامة في الصحة والتعليم والبيئة، وكذا علاقاتهم بمسارات التعولم الاستهلاكي التي تنخرط فيه بعض أقطارهم، وكذا نوعية السياسات التي تفرضها عليهم المؤسسات المالية الدولية.
يُواجِه العرب اليوم مثل بقية الدول وباء كورونا، في زمن تراكمت فيهم أمامهم تداعيات عقد من النتائج التي ترتَّبت عن ثورات شبابهم التي اندلعت في أكثر من ساحة عربية، بهدف تجاوز حالات الانسداد السياسي التي شملت أغلب بلدانهم مطالع هذا القرن .. وفي قلب عمليات المواجهة بإيجابياتها، وبما صنعت من ثورات مضادّة، وكذا بمختلف أشكال الصراع العربي العربي، والصراع الإقليمي والدولي الذي نشأ وتطور بمحاذاتها، وما نتج عن ذلك من صعوباتٍ وعوائق جديدة في مسألة تجاوُز تَبِعات كل ما جرى ويجري. ووسط انقساماتٍ وخلافاتٍ تروم مزيداً من تقسيم بلدان عربية بتواطؤ مع المصالح المعلنة لبعض القِوَى الإقليمية والدولية .. وفي قلب الزلازل الحاصلة، أو المنتظرة الحصول، تستمر منذ أربعة شهور جائحة كورونا، وأضافت إلى المحيط العربي إشكالات جديدة، عَرَّت المستور في السياسات العمومية العربية، فازدادت الأوضاع سوءاً، وأصبح مؤكّداً تضارُب مصالح القِوَى العظمى، وقد تعددت رؤوسها اليوم، والقِوَى الإقليمية وقد أصبحت لها مواقع عسكرية جديدة في قلب الديار العربية.. ارتفع عدد ضحايا الوباء في أغلب البلدان، مثلما ارتفع في أغلب بلدان المعمورة وقاراتها، فازدادت الأمور تعقيداً.
واجه العرب قبل الوباء القاتل أوبئة الاستبداد السياسي التي تُمارسها السلطات منذ عقود الفتك 
بحقوق مواطنيها، وواجهوا، منذ ستينيات القرن الماضي، إسرائيل ومن يقف معها وخلفها، لمحاصرة الطموح العربي في النهضة والتنمية، فهل يستطيعون اليوم مغالبة الغشاوات التي تملأ أعينهم، وتمنعهم من رؤية صور العنف التي تملأ ديارهم؟
ليس من المبالغة أن نقرّ بأن الحالة العربية تَعْبُرُ اليوم مفازاتٍ مرعبة، وأن الوباء الجديد يملأها اليوم بويلاتٍ لم تكن تنتظرها ولا تتوقع حصولها، فقد تراكمت، منذ سنوات، أخطاء سياسية أدخلت بلداننا في دواماتٍ لا تفضي إلى دروب الأمل، وواصلت أغلب أنظمتنا السياسية استئناسها بوتيرة التراجع، ومن دون أي مبادرةٍ تسعف بما يساعد ويمكِّن من تقليص حجم الخسارات والأهوال التي تضاعفت، والنزيف الذي لم نتمكّن من وقفه، فأصبح الجميع اليوم في قلب الهاوية.
لا نتحدّث عن البلدان التي حُوصِرَت طموحاتها في الثورة والتغيير، ولا عن البلدان التي أطاحت رؤوس الاستبداد والفساد في مجتمعاتها، ولم تنجح في تدبير سياساتٍ عموميةٍ مكافِئة للطموحات التي عبر عنها شباب الميادين، وقت حماسهم لشعارات محاربة الفساد. كما أننا لا نتحدّث عن الأنظمة التي اختارت مواجهة مشروع التغيير في بلدانها، وفي البلدان التي حصل فيها التغيير، فأعلنت ثوراتٌ مضادة وركبت دروباً غير مأمونة في التاريخ وفي السياسة. إننا نتحدّث عن العرب بالجمع، زمن الحروب والأوبئة، زمن المراجعات الكبرى.
C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".