تأملات ما بعد كورونية

تأملات ما بعد كورونية

13 ابريل 2020
+ الخط -
بعد أن تجاوزت البشرية في تعاطيها مع جائحة كورونا مراحل الصدمة الثلاث الأولى، من إنكار ورفض وغضب، وصلت، في النهاية، كما يتوقع علماء نفس واجتماع، إلى المرحلة الرابعة، القبول والتسليم. وهذا طبيعي تفرضه معطيات الواقع. ويمكن بسهولة رصد سلوكيات الناس، منذ بداية الكارثة الكورونية، حين تلقوا نبأها العظيم، وتراوحت ردود الأفعال بين أنماط ثلاثة: 
الأولى والأكثر شيوعا، الهلع والارتباك المفرط الكفيل بشلّ قدرة المرء على التفكير المنطقي السليم، فأفرط أصحاب هذا النهج في استخدام المعقّمات، وفي تشديد قيود العزلة على أنفسهم، ولم يجرؤ الواحد منهم، تحت وقع الوسواس القهري، على فتح النوافذ لاستنشاق نسمة هواء طازجة، ولم يهنأوا بلحظة استرخاء واحدة، خوفا من تسلل فيروس كورونا إلى بروجهم المشيدة من الحيطة والحذر والحرص البالغ. يقضي هؤلاء جل وقتهم عادة في تتبع آخر الإحصائيات المتعلقة بالوباء، ويتبادلون الوصفات الشعبية المقترحة من بلهاء، لا يتوقفون عن إسداء النصائح غير المنطقية في أغلب الأحيان.
لا يقل النوع الثاني تطرّفا، ويشكل خطورةً أكبر على نفسه وعلى الآخرين. هؤلاء ممن يؤمنون بنظرية المؤامرات الأميركية والصينية، وهذربات الحرب البيولوجية، ويعتقدون أن الأمر كله لعبة رأسمالية إعلامية مكشوفة، فيتصرفون بعدم اكتراث، وإهمال واستخفاف، فلا يتبعون أيا من أساليب الوقاية المطلوبة، ولا يتقيدون بتعليمات الحكومة، من حظر التجول والتباعد الاجتماعي، والتعقيم، وتفادي الازدحام والاختلاط المجاني، ويسخرون من الملتزمين، ويصفونهم بالجبناء.
الصنف الثالث هم الأكثر توازنا، ويضم فئة من الأشخاص الطبيعيين، المعتدلين غير المبالغين، وغير الميالين إلى الإثارة، يتخذون الاحتياطات الوقائية اللازمة، ويتحرّكون بمقدارٍ في محيط الحي، ويخالطون الحد الأدنى من الناس، ويمارسون حياتهم بشكل طبيعي قدر الإمكان، غير معنيين بملاحقة الأنباء أولاً بأول، ولا يصدّقون الشائعات، بل يقاومونها بوعيهم وقدرتهم على التمييز والإدراك. هم أبعد ما يكونون عن الانفعالية والتخبط، يحاولون بث الروح الإيجابية يتقنون فن التكيف مع متغيرات الحياة، يدركون جيدا أن الموضوع مسألة وقت فحسب، وستعود الأمور إلى طبيعتها في القريب العاجل، ذلك أن هذا الكوكب اختبر، عبر سني عمره الطويل، كوارث خطيرة لا حصر لها، أمراضا وأوبئة وأعاصير وزلازل وبراكين وتحطم طائرات وغرق سفن وبواخر وأسلحة دمار شامل وقنابل ذرية واخرى عنقودية وغازات سامة وبراميل متفجرة تُلقى فوق رؤوس عزّل وحروب إبادة وقتلة متسلسلين ومأجورين وجوعا وتشريدا واغتصابا وحرقا ونهبا وغياب عدالة وتهجيرا وظلما وسفاحين وطغاة تجبّروا بشعوبهم. كل تلك الفظائع مرّت، والحياة مستمرة، غير آبهة بنا، كون عبورنا فيها خاطفاً وغير مؤثر. وما كورونا إلا تذكير لنا، نحن البشر، بضآلتنا ومقدار هشاشتنا، وهي دعوةٌ لا يمكن تجاهلها لمواجهة أوهامنا المضحكة أننا مركز الكون، وأن كل ما يدور في الحياة مسخرٌ لخدمتنا، ومتعلقٌ بنا حصريا. في مرحلة القبول والتسليم التي بلغناها أخيرا، تضعنا كورونا في مكاننا الطبيعي، كائنات مذعورة مثيرة للشفقة في تعلقها المرضي بالحياة، وحبها لها من طرف واحد في أغلب الأحيان.
العالم بأسره الآن في حالة تأهبٍّ قصوى، سعيا إلى كبح انتشار الفيروس، فيما الأرض تتنفس على راحتها من جديد، سعيدة بالهدنة غير المتوقعة التي أتاحها كورونا، بعد أن توقفت محرّكات السيارات والطائرات والبواخر، وتراجع حضور النفط المحترق، وعلقت صراعات وحروب. تلتقط أمنا الأرض أنفاسها، وتحرّضنا على التأمل بحجم الخراب الذي نحدثه فيها على مدار اللحظة، وتتوسلنا أن نكفّ عن أنانيتنا قليلا، ونستمع إلى أنينها، وقد أرهقها حضورنا الثقيل المؤذي غير الرشيد، وتحرّضنا على إيقاظ الجانب الروحاني فينا، لأنه الأنبل والأكثر رفعة وتقبلا وتفهما لحتمية الأقدار.
لحظات الولادة والموت حتمية، وما بينهما مشوار سريع خاطف، مهما امتدت سنواته، فإنه آيل إلى زوال بالسيف، أو بغيره، ونحن وحدنا من نقرّر كيف نقضي، فإما نعبره بالهلع والقلق والحزن، أو نغتنم كل لحظة فيه، ناشرين المحبة والجمال والخير والفرح والحكمة، مثل أي زوار سرعان ما يمضون، لأنهم محكومون بالرحيل.
AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.