رئيس الوزراء في مستشفى حكومي

رئيس الوزراء في مستشفى حكومي

11 ابريل 2020

مستشفى سانت توماس بلندن حيث يعالج جونسون (9/4/2020/فرانس برس)

+ الخط -
أدّت جائحة كورونا إلى جائحة فكرية خطيرة أخرى، وهي موجة عشق الدكتاتوريات وإعلان فشل النموذج الديمقراطي. تجلى ذلك في موجات الافتتان بالنموذج الصيني الذي يزعمون أن سبب نجاحه في القضاء على المرض قدراته على تتبع مواطنيه والتحكّم فيهم، يردّدون بلا كلل: "حين يتعلق الأمر بالأمن القومي لا تحدثني عن حقوق الإنسان".
وفي السياق نفسه، تم التركيز على عيوب الأنظمة الصحية والاقتصادية في الدول الغربية، وما أكثرها، فالمستشفيات في بريطانيا وأميركا لا تواكب الدفق الهائل للمرضى، والأطباء لا يحظون بمعدّات الوقاية، حتى إن بعضهم ارتدى أكياس القمامة بديلاً. والمنصّات الإعلامية الروسية ضخّت بكثافة مواد عن فشل الاتحاد الأوروبي الذي لا يملك سياسة صحّية موحدة. وانعكس ذلك لدى قطاعات من الرأي العام العربي إثباتاً لصحة نظرية "المستبد العادل" الأثيرة، وهكذا يتأكّد أن الديمقراطية خدعة، والأحوال في الصين وروسيا ومصر، بل وسورية الأسد أيضاً أفضل!
جاءت إصابة رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، بالفيروس، لتعيد التذكير بمزايا الأنظمة الديمقراطية على قصورها، فحاكم الدولة يُعالج في مستشفى سانت توماس الحكومي، الذي عولج به مجانا أحد أصدقائي المهاجر غير البريطاني أصلا. شهدت سابقاً حدثاً شبيهاً، في زيارة إلى سجن دين هاخ (لاهاي) في هولندا، أخبرتنا طبيبة فيه أن السجناء يُنقلون إلى مستشفى حكومي يبعد عنه سبع دقائق، يعالج فيه أيضاً أفراد الأسرة المالكة الهولندية. قالت: قد تجدون في إحدى حجرات المستشفى مسجوناً وفي الحجرة المجاورة أميراً.
عجيبة أخرى بالنسبة لبلادنا، أن أخبار حالة جونسون الصحية، بما فيها نقله إلى وحدة العناية الفائقة، تعلن لحظيا، وذلك من دون أي قلق على مصير البلاد لو غاب الزعيم الملهم، فصلاحياته انتقلت فوراً إلى وزير خارجيته، وثمّة تسلسل قيادي واضح بين قيادات الحزب الحاكم لنقل السلطة، كما أن ثمّة مؤسسات تسير أمور الدولة، من دون تأثر بغياب رأسها أيا كان.
بالإضافة إلى التركيز على أوجه قصور الأنظمة الصحية، استخدمت دعاية الأنظمة الاستبدادية المحلية والعالمية حيلةً أخرى، التركيز على أوجه انتهاكات حقوق الإنسان لتطبيعها نمطا عالميا، مثل التقارير عن تعرّض عاملين في القطاع الصحي البريطاني لتهديدات لعدم التحدّث للصحافة، وكذلك تقارير عن تجاوز الشرطة البريطانية صلاحياتها وتعاملها الحاد ضد منتهكي قرارات التباعد الاجتماعي. ولا تصمد هذه المغالطات للتدقيق، فعلى سبيل المثال، حين يصف مقال في "الغارديان" الشرطة البريطانية بأن "يدها ثقيلة" (heavy handed)، فإن المقصود هو وقائع فرض فيها رجال شرطة غرامات غير مبرّرة ونحوها، وهو بالتأكيد نموذجٌ مختلفٌ تماماً عن الأيدي الثقيلة في دول عربية قد يُصعق فيها المواطن بالكهرباء حتى الموت، بسبب مشادّة مع شرطي، أو في الصين حيث قد يختفي المواطن إلى الأبد.
وبالمثل ما يخص التضييق على التعامل مع الصحافة، يظل أنه في الواقع أنتم عرفتم هذه القصة، لأن الصحف البريطانية نقلت عن أطباء من دون أن تُسميهم، ولا يجرؤ أحد على تهديد الصحيفة لكشف هويتهم. وقد شهدنا أخيرا واقعة مذهلة من المنظور العربي لاستقالة وزير البحرية الأميركي بالوكالة، بعد تسريب صوتي له، وهو ينتقد قائد حاملة الطائرات، روزفلت، الذي تعرّض للإقالة بعد تسريب رسالة عن إصابات كورونا في طاقمه.
من الإيجابي متابعة أوجه العيوب والثغرات الضخمة حقا، لا مبالغة في الأنظمة الديمقراطية، خصوصا التي تخضع لسياسات اقتصادية "نيوليبرالية" متوحشة على النمطين، الأميركي والبريطاني، ومن الواقعي أن الانتخابات غير المزوّرة ثبت أنها ليست حلا سحريا، وهي عرضة لتلاعبات شتّى. ولكن في المقابل، يجب أن يحرص خطاب نقد النموذج الغربي على أن يكون منطلقا من المربع الديمقراطي، لا الاستبدادي، الزاوية هي ضرورة إصلاح الأنظمة الديمقراطية لا إلغائها، توسيع قدرتها التمثيلية لا المزيد من تضييقها، تعظيم إيجابياتها لا تسفيهها. زعماء الاستبداد لا يُعالجون في المشافي الحكومية.