المعنى المراوغ

المعنى المراوغ

09 مارس 2020

(محمد العامري)

+ الخط -
كيف يمكننا أن نتلمّس المعنى في موضوعٍ يعتمد التشابك الشكلي، أو لوحة تعتمد التجريد؟ وهل المعنى يحمل صفة واحدة؟ وكيف يمكن القبض عليه؟
في محاضرة شفاهية، أقيمت في رحاب كلية الآداب في جامعة محمد الخامس في الرباط، أحياها الباحث الأكاديمي والمترجم من العربية إلى الفرنسية، عبد الرحمن طنكول، تميزت بالتوسع والإحاطة والسّبر، تحدّث فيها عن موضوعٍ يمتاز بالراهنية، ويدخل ضمن مشاغل الإنسان النقدية والجمالية الدائمة، أي ما يتعلق بالبحث عن المعنى، سواء في الأدب أو الفنون. وعن سبب اختياره "المعنى" (من بديهيات أي موضوع، وخلو أي موضوع منه يؤدي إلى فراغ) يوضح المحاضر أن ذلك جاء نظرا لأهميته الكبيرة أولا، ونظرا لاستعصائه على المطارحة والمناولة والتحديد الصارم ثانيا. وعلى الرغم مما يحظى به سؤال المعنى من إقبال كبير، فإنه يعدّ من الأسئلة المهمة اللصيقة بالأدب والفنّ والفكر، وتصعب محاصرته. وإذا كان المعنى (حسب المحاضر) يحضر في كل عمل؛ فإن إشكال تحديد المعنى ومعرفته من أكثر الإشكالات استعصاء، إنْ في الدراسات الإنسانية أم في الفكر والفلسفة. وذلك لأنه لا يمكن دراسة أي عمل من دون الاعتقاد بأنه ينطوي على معنى. وقد نظر الدارسون في مسألة المعنى، ولم يستطيعوا الحسم فيها. وزاد الموضوع تعقيدا بزوغ تيار "ما بعد الحداثة" الذي يسعى إلى كسر الثوابت والنواميس التي شيّدتها الحداثة. وتطوّر الأمر مع موجة الأدب الاختزالي الذي يريد إزالة المعنى من داخل العمل، فكيف يمكن القفز على المعنى؟
تحدّث دارسون عن مأزق الأدب، ما أدّى إلى طرح سؤال "أين نحن من الأدب؟"، خصوصا حين ينحو منحىً يجعلنا لا نتجاوب معه إلا بصعوبة كبيرة، فهل نحن في حاجة إلى هذا الأدب الذي يضع أمامنا حواجز للفهم؟ نتيجة ذلك، تغيّر تعاطي النقد مع الأدب، فصار يُنظر إليه على أنه ممارسة دالة لا ينبغي البحث في مضامينها، وإنما في أشكالها الدالة اللانهائية. وقد ركّز النقد التشكيلي، مثلا، على هذا التصور، وتَفطّن إلى أهمية الشكل أكثر من المعنى، تماشيا مع أبعاد النص (استعار الباحث إشعاعات النجمة لرولان بارت، لفهم أبعاد المعنى ومحيطه).
النص، حسب المحاضر، تواشجٌ وتلاقٍ لمجموعة من الشفرات تؤدّي معنىً غيرَ ظاهر، لهذا فإن المبدع يزاوج بين ما هو بديهي وما هو ملتبس؛ وهنا منشأ الغموض والصعوبة في النفاذ إلى المعنى، فبقدر ما يتطوّر الأدب يزداد تأزم المعنى أو "إتلاف المعنى"، فالأدب اليوم يسعى، في كثير من تجلياته وتمظهراته، إلى تثبيت المعنى. وسنلحظ أن النقد بقدر ما يتطوّر، يواجه صعوبة الحسم في مسألة المعنى. وبالعودة إلى النقد الحديث، في بدايته الأولى، في القرن التاسع عشر، بعدما تفرّعت الفنون، ليستقلّ كل فرع بذاته، فإنه لم يكن حينئذ ينطلق من النص، بل يأتي إلى النص من عوالم خارجية مختلفة (يأتي ولا ينطلق) ثم غدوْنا، بتطور النقد، نقف أمام توجَهين يسمان التعامل مع النص.
يأتي التوجه الأول إلى النص انطلاقا من حياة الكاتب، ويذهب إلى أن النص يوجد في حياة الكاتب، وأن الكاتب يأخذ معنىً قصديا بقيمة المعنى الذي يقصد؛ ما أدّى إلى تطور النقد البيوغرافي، وهناك إقبال كبير على هذا النقد، فالقارئ ميّال إلى الدراسات التي تتكشّف فيها تفاصيل من حياة الكاتب ويستمتع بها. أما التوجّه الثاني فهو الذي يبحث في بيئة الكاتب، ومنه تولد ذلك التيار النقدي المعروف بـ سوسيولوجيا الأدب، أي البحث في محيط الأديب وبيئته. وعن هذا الاتجاه النقدي، قال بارت إن الكتابة ما هي إلا إعادة إنتاج ونقل واستلهام لما عاش الكاتب في حياته وبيئته، إذ هناك علاقة بين واقع الكاتب ونصه.
وحاول المنحى الأول أن يطوّر النقد الفيلولوجي التاريخي، لأنه يركّز على جميع الخطوات التي يمارسها الكاتب على النص، ومنها ظهر النقد التحقيقي، ثم النقد التاريخي الذي يركز على سيرة الكاتب وتأثيرها في النص. وقد لاقى هذا التوجّه النقدي "نجاحا"، خصوصا في البلدان العربية، نظرا إلى سهولة تطبيقه. وخلص المحاضر إلى أن تعدّد الاجتهادات لتلمس المعنى أضفت ثراء على البحث الأدبي، كما أبرزت مكامن النصوص الأدبية والفنية وتنوع إمكاناتها.
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي