ما مات من استبدّ

ما مات من استبدّ

08 مارس 2020
+ الخط -
لم يعد الموت حلًّا للخلاص من الاستبداد، وفق ما ترجوه الأيادي المبسوطة بالدعاء على الطغاة، فقد برهنت الحقبة العربية الأخيرة أن الطغاة الذين لا يموت "إرثهم" قبل موتهم لا يموتون، وإن ماتوا بيولوجيًّا.
وفق هذه المعادلة التي برهنها الدمّ ودمغها السوط، يتعيّن أن نتريّث طويلًا قبل إعلان نبأ وفاة حسني مبارك، لأنّ الخلود الأرضي لم يعد فكرةً تقتصر على العظماء والمبدعين، ومن قدّموا للبشرية خدماتٍ جليلة، بل استطالت لتشمل من "أبدعوا" في الكبت والقمع، ومن حرموا البشريّة من "خدمات جليلة" كان يمكن أن تسهم فيها شعوبهم، لو تمتعت بالحرية.
أيضًا، فنّدت الحقبة العربية الراهنة ظنوننا التي كنّا موقنين بها حتى وقت قريب، أن الطغاة "لا يحلمون" مثلنا نحن المروّعين بالواقع الكئيب، غير أننا اكتشفنا أنهم أوسع حلمًا منّا جميعًا، وإن اختلفت غايات الأحلام بين الطرفين. والمصيبة أن أحلام الطغاة أزيد تحققّاً وتجسيدًا من أحلام شعوبهم، وتتفاقم مع اتساع رقعة صولجانهم، وتضخّم أرصدتهم، وكثرة أوسمتهم. عندها يتعاظم الحلم بما يتساوق مع تضخم الذات لدى الطاغية، على نحوٍ يجعله يرى الشعب صغيرًا، بمواليه ومناوئيه، على حدّ السواء، بل إن الوطن كله يغدو "أصغر" من أن تلمسه يداه، ليس من باب الزهد، بل لأنه يشعر أنه يستحقّ، بمؤهلاته وإبداعاته، أن يحكم وطنًا أكبر ممّا أتاحه له "سوء حظّه العاثر"، فالقذّافي، مثلًا، لم يخلع على نفسه لقب "ملك ملوك أفريقيا" عبثًا، بل كان حكم القارة السوداء واحدًا من أحلامه الكبرى فعليًّا.
على هذا النحو، في وسعنا أن نفهم، اليوم، تلك السّكِينة العميقة التي طبعت ملامح حسني مبارك، إبّان خلعه عن عرشه، ومن ثمّ اضطجاعه في قاعات المحاكم الهزلية التي كانت تُعقد له. كان الرجل وكأنه يتابع فيلمًا سينمائيًّا، لضرورات النوم وحسب، عاقدًا أصابعه، ممدًّدا على سريره الوثير، مطمئنًّا إلى إرثه "القمعيّ" الذي بناه عبر سنوات استبداده الطويلة، فقد كان على قناعة تامّة بأن هذا الإرث سينتشله، في آخر المطاف، من هؤلاء "الصبية" الذين تجرّأوا على محاكمته، وقبل ذلك على التمرّد عليه. كان مطمئنًّا لأنه يعلم جيدًا حجم "إنجازه" الوحيد الذي يفخر به، ممثلًا بأجهزته الأمنية التي تفنّن في "تشكيلها وتلوينها"، وفي توسيعها إلى حدّ أنه أدرج فيها المؤسسة العسكرية برمّتها؛ لتغدو هي الأخرى محض جهازٍ لحماية الرئيس، يقودُه جنرالاتٌ لا يضعون إلا خططًا لمحاربة الشعب وصناعة "الكفتة". 
في المحصلة، ما خاب ظن الطاغية بإرثه الذي وزّعه قبل موته على الجنرالات، فجاء عبد الفتاح السيسي بوصفه "سيّد الوارثين"، وصاحب الحصة الأضخم بين الورثة، لينتشله من "صبية الربيع العربي" الذين لم تسعفهم براءتهم بمعرفة حجم الخصم وجذوره الناشبة في أجهزة الدولة كلّها، فظنّوا أن مجرّد تنحية الطاغية عن عرشه، كفيلةٌ باستئصال جذور الاستبداد قاطبة من تربة الوطن، فدفعوا من دمهم، وصناديق اقتراعهم، وحبس رئيسهم المنتخب حتى الموت، ثمنًا ما يزال مفتوحًا على مزيد من الطغيان والاستبداد، وبأدوات أشد فتكًا من صاحب الإرث المخلوع.
ولإتمام تعاليم الميراث على النحو الذي يسهم في تخليد الطاغية، أيضًا، ارتأى الورثة ضرورة إسباغ طقوس مراسم الدفن العسكرية على "صاحب الفضل"، لتظل "مهابة" الحاكم الفرد قائمة، ولو بضريحٍ يحاكي الزنازين والمعتقلات، مع تسويق ذرائعيّ بالطبع، قوامُه أن الميّت كان رئيسًا، و"بطل حرب"، حتى وإن تحوّل البطل لاحقًا إلى أعتى مروّجي الهزائم العربية وأساطنتها.
لسنا في وارد التشفّي بالموت، غير أن المطلوب أن نتأكّد من "الموت" ذاته قضية حسم وقطع. وعلى ثورات الربيع العربي أن تستوعب درس "الإرث" جيدًا قبل أن تعلن ابتهاجها بإزاحة طاغيةٍ عن عرشه، بأن تجرّد الجلاد من سوطه قبل خلعه؛ لأن ثمّة أياديَ غفيرة تنتظر أن ينتقل إليها هذا السوط، لتستأنف دورة الجلد، وعليها أن تحرم الميّت من إرثه قبل موته؛ لتتأكد أنه سيموت فعليًّا، لا سريريًّا، على غرار سرير الرئيس "الحيّ" حسني مبارك.
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.