مبارك من التنحّي إلى التشييع

مبارك من التنحّي إلى التشييع

07 مارس 2020
+ الخط -
غرقت، في فبراير/ شباط عام 1998، عبّارة السلام بالمصريين الذين فيها في عرض البحر الأحمر، من دون أن يتحرّك أحد لإنقاذهم إلا بعد مرور ساعات على غرقها، وغرق جميع من كانوا على متنها. وفي الشهر نفسه عام 2002، حدث تفحم قطار في الصعيد، مخلفا أكثر من 350 قتيلا، وفي الشهر نفسه عام 2011، تخلى الرئيس حسني مبارك عن السلطة بعد أن خرجت الملايين في الشوارع تطالب برحيله، وفي الشهر نفسه من هذا العام (2020) توفي مبارك عن 92 عاما، وكان قد حكم مصر 30 عاما، إلى جانب ست سنوات نائبا لرئيس الجمهورية، ما يعني أنه قضى 36 عاما في قلب الدولة العميقة، خبيرا بها وبأمورها، وهو أحد رجالاتها الذين أثّروا فيها وقد صبغها بصبغته. وبمجرد إعلان وفاته، انطلقت الآلة الإعلامية للدولة العميقة في الحديث عنه وعن بطولاته وعن حسنات حكمه، وكيف أنه أحد الأبطال الحقيقيين في تاريخ مصر. وأعلنت الدولة الحداد، وأقيمت له جنازة عسكرية رسمية، على الرغم من الأحكام النهائية الصادرة ضده، والتي كان من الواجب، وبمقتضاها، نزع الألقاب العسكرية عنه. ولكن على الرغم من هذا كله، وعلى الرغم من الاحتفاء بمبارك لحظة وفاته وتشييعه في جنازة عسكرية، جمعت رجال الدولة السابقين والحاليين، هناك عدة مشاهد جديرة بالملاحظة. 
الأول: حينما يُشاهد الاحتفاء بحسني مبارك عند تشييعه، يقفز إلى الذاكرة مشهدان، التنحّي والمحاكمة. في الأول، تم الانقلاب الناعم على مبارك من خلال المؤسسة العسكرية، ولأول مرة منذ عام 1952 تسيطر المؤسسة العسكرية على مؤسسة الرئاسة. كانت إطاحة مبارك هي أولوية المؤسسة العسكرية في ذلك الوقت، فحتى يتم الحفاظ على النظام، لا بد من إطاحة رأسه، فحدث الانقلاب الناعم على السلطة، وتولتها المؤسسة العسكرية، في الوقت نفسه، انطلقت الآلة الإعلامية لتفتك بمبارك ورجاله، وتكيل لهم الاتهامات، بدأت باتهامات بخصخصة القطاع العام وبيعه وانتهاء بقتل المتظاهرين. وقد أوهم هذا الأمر بالكيفية التي أدير بها المشهد للجميع أن قطيعة أصبحت بين المؤسسة العسكرية ومبارك، ولكن ذلك كان فقط لشراء الوقت، من أجل تثبيت أمر ما تسعى إليه المؤسسة العسكرية.
الثاني: مشهد المحاكمة، في وقتٍ تخوفت المؤسسة من أن تكون إطاحة مبارك البداية لنشوء 
تنظيماتٍ ديمقراطية تسعى، مستقبلا، إلى الوصول إلى السلطة، ويكون ذلك مقدمة لعملية تطهير واسعة لمؤسسات الدولة (خصوصا الشرطة والقضاء). لذا لجأت المؤسسة سريعا إلى عقد محاكمات صورية لمبارك، كان الهدف الأول منها كسر الهيبة التي تمتع بها مبارك ثلاثين عاما، وكأنه نوعٌ من العقاب له، للتفكير في توريث نجله السلطة، وثانيها هو إيجاد حالة بأن هناك محاكمات لمبارك ونظامه، وإقرار العدالة، لكن المتبصّر للأمور كان يدرك أن حصيلة تلك المحاكمات ستكون البراءة للجميع، حيث تم استخدامها لتكون حائط صدّ للمطالبات التي كانت تتعالي حينها بتطهير القضاء ومؤسسات الدولة.
الثالث: مشهد الجنازة. وهو، في ذاته، مشهد مركّب يختزل داخله عدة مشاهد، أولهما عودة الدولة بقوة إلى المشهد، وسعي الرئيس الحالي، عبد الفتاح السيسي، إلى إعادة الوضع على ما كانت عليه الأمور في التسعينات. حينها لم يكن لدى مبارك أزمات، وكان لديه اعتراف دولي بريادته الإقليمية إلى جانب تحقيق نمو اقتصادي. وبالتالي كان مشهد الجنازة يوحي بذلك، وهو أقرب إلى مشهد تنصيب السيسي في العام 2014، حينما كان حفل تنصيبه تأكيدا علي عودة الدولة، فكان مشهد تشييع مبارك في جنازة عسكرية تأكيدا علي عودة الدولة أيضا. الأمر الثاني الذي يمكن قراءته في مشهد الجنازة هو كراهية الدولة العميقة ثورة يناير، فإخراج المشهد بهذه الصورة هو تأكيد على الاحتفاء بمبارك وتكريمه، وهو الذي قامت عليه الثورة. وكأنه أيضا إشارة من المؤسسة العسكرية بأن ما حدث مع مبارك في مشهد محاكمته هكذا كان خطأ أدّى إلى أن يكون هناك فقدان للثقة من أبناء المؤسسة في المؤسسة ذاتها، وبالتالي ما حدث هو تصحيح وإعادة ثقة في أن المؤسسة العسكرية لا تتخلّي عن أبنائها أبدا.
الأمر الثالث، والمهم الذي تمكن قراءته أيضا في مشهد الجنازة، هو شبح مبارك. بمعنى أن 
المنتمين إلى ثورة يناير يظنون أنهم خصم مبارك الأوحد والأكبر، والحقيقة أن أكبر خصم لمبارك هو السيسي نفسه. حيث إن شبح مبارك يطارده في كل أركان حكمه، ويُلقي بظلاله عليه، شبح مبارك يطارده في كل شيء يريد أن يفعله، لأنه يريد أن يفعل كل شيء على طريقة مبارك، لكنه لا يمتلك أدوات مبارك، يريد أن يكسر كاريزما مبارك داخل مؤسسات الدولة وصورته التي ظلت معلقة 30 عاما، لكنه لا يمتلك خبرة مبارك ولا مؤهلاته ولا كاريزماه. ولكنه برع في أن يتفوق على مبارك في القتل والتخريب والفساد وإفقار المصريين، وتراجع مكانة مصر الإقليمية والتنازل عن الأرض وأمن مصر القومي. لأجل هذا، كلما يحاول السيسي إنجاز مشروع ما ولا ينجح فيها يلقي اللوم مباشرة على ال 30 عاما التي حكم فيها مبارك (لأن شبحه لايزال موجودا في مخيلته). وحينما يريد أن يذهب بعيدا، يعلق كل الفشل على ثورة يناير. لذا هناك أمران أساسيان في عقل السيسي لا يغيبان عنه: شبح مبارك وهيئته الموجود في كل مكان وزقاق من أزقة الدولة العميقة، وشبح انتفاضة يناير التي أطاحت هذا الشبح الذي يشغل عقل السيسي. ولم يكن يريد جنازة عسكرية لمبارك، ولكن يبدو أن دولا خليجية، إلى جانب المؤسسة العسكرية، كان لهما رأي آخر.
المشهد الرابع، هو مشهد المترحمين على حسني مبارك. وهنا الأزمة الحقيقية لمعسكر يناير الذين يرون أنه لا يجوز الترحم على الرجل، رافضين كل ما قيل عنه، خصوصا جملة له ما له وعليه ما عليه. وهنا يبرز أن معسكر يناير لم يدرك، حتى اللحظة، أن هناك قطاعا عريضا داخل الشعب المصري يرفض الثورة وما قامت به، ويتناسى أن عدد الذين نزلوا في ثورة يناير أقل بكثير ممن كانوا في بيوتهم، يشاهدون الأمر على شاشات التلفاز (أقلية في كل مجتمع هي من تصنع التغيير وليست الأغلبية). وهذا يعكس الفجوة مع معسكر يناير الذي لم يستطع أن يطوّر خطابا يتفاعل مع تلك الجماهير أو يتحاور معها، وفي الوقت نفسه، يوضح أن ذلك المعسكر غير قادر علي قراءة مشاهد أخرى حدثت في تاريخ مصر الحديث، ففي 1967حينما حدثت النكسة، خرج الرئيس جمال عبد الناصر حينها ملقيا خطاب التنحّي، فخرجت الجماهير إلي الشوارع، تطالبه بالبقاء وعدم الرحيل، وهو في أوج هزيمته. يحتاج هذا المشهد الغائب عن معسكر يناير إلى تدبّر شديد منهم، لتفهم طبيعة الشعب المصري وعقليته، والعاطفة التي تربطه مع من يحكمونه.
BA733789-23B4-4A69-9D4A-CB7E100A9A4B
تقادم الخطيب

أكاديمي، باحث مصري في جامعة برلين، مشارك في الحراك السياسي المصري منذ 2006؛ ومسؤول ملف الاتصال السياسي في الجمعية الوطنية للتغيير سابقاً.