مقبرة مبارك

مقبرة مبارك

05 مارس 2020
+ الخط -
مساحتها ألف متر مربع ولا حسد، وفيها مساحة كبيرة للسيارات وبالرخام المحترم، وبالطبع "كولدير" لجمع الحسنات من العطشى، كي يزيد رصيده في سويسرا وعند الله أيضا. هذا ليس كلام أطفال في "قعدة سرحان"، ولا كذبا تحت شجرة صفصاف في قرية بجوار قطفة غنم أو ساقية أو تحت قبة شيخ باتع لصبية في قرية محرومة من العيش والطعمية، ولكنه كلام من صحيفة الوطن المصرية (مية مية)، ولك أن تتخيّل بعد ذلك ما يحدث في مصر الآن (مع الاعتذار لرواية "يحدث في مصر الآن")، بعدما صار كاتبها، يوسف القعيد، برلمانيا بالتعيين من رئاسة الجمهورية. 
المقبرة، كما أكد الخبر، جرى بناؤها في عام 2009، وفيها أيضا ساحة لاستقبال الضيوف. وبالطبع كنب خشب وكراسي جريد وزيران قناوي لمشايخ القرآن (هذا من عندي). وهي، كما جاء في الخبر، قريبة من محطة مترو كلية البنات، وهذا لزوم التسرية عن النفس من وحشة الظلمة (وهذا أيضا من بنات تخيلاتي).
والآن، بعد ذكر محاسن موتانا بالطبع بالذوق أو بالعافية احتراما وتقديرا للآخر، وبعد تقديرنا لصاحب أول ضربة جوية (على عين أبونا وراسه)، وأن الجيش هو درع الأمة، ولولاه لدخلت إسرائيل إلى أبو النمرس، ولا أعرف ماذا ستفعل إسرائيل في أبو النمرس، وأن الجالس على ثغور الوطن كطالب العلم والحاج إلى بيت الله (لاحظ أن مبارك لم يطلق طلقة واحدة على حمامة إسرائيلية تحلق فوق أرض سيناء منذ 1973 حتى توفاه الله، أي نصف قرن إلا ثلاث سنوات)، سكن خلالها ست سنوات في قصر بمصر الجديدة نائبا للرئيس و30 سنة رئيسا في كل قصور مصر. وأنا الذي تخرجت من قسم الفلسفة في مايو/أيار بتقدير جيد في 1981، أي قبل أن يكون مبارك رئيسا بأربعة شهور، وأدّيت الخدمة العسكرية 15 شهرا عسكري دفاع جوي (راصد) تعادل ما درسه مبارك في كليته الحربية بعد الثانوية العامة، وظللت مواطنا صالحا خلال 30 سنة من عمري، وهي أيضا سنوات حكم مبارك (أعمل أمين مكتبة) حتى خرجت من سنتين على المعاش بـ2012 جنيها شهريا (خصم منهم عبد الفتاح السيسي هذا الشهر الفكّة جنيهين). وخلال 25 سنة من عمري، أعيش في شقة 54 مترا في مدينة 15 مايو (شرق حلوان) مجاورة 14 مجموعة 3 عمارة 23 مع زوجة وطفلين، صار أكبرهما (الولد) في بكالوريوس طب بشري، وأصغرهما (آنسة) في بكالوريوس صيدلة. وأحاول جاهدا أن تكون لي مقبرة نصف متر في مترين (شرق البحر في سمالوط بلدي)، بلا رخام ولا قاعة زوار ولا "كولدير"، ولا حتى زير ولا حتى صبارة، لأن الصبر من الله والحساب عليه في النهاية.
لم أدخل أي محكمة، والله العظيم، في حياتي، ولا حكمت عليّ محكمة جنائية (مخلّة بالشرف) أبدا في قضايا قصور رئاسية، ولا كرافتات من "الأهرام" ولا شوك ولا سكاكين ولا أصحن، ولا عندي أية ملايين، لا في سويسرا ولا في أبو النمرس. ولن تذهب يسرا أبدا ولا إلهام شاهين كي يقبلا ابني يوم مماتي بجوار الزير أو بجوار الدكّة. ولن يخرج مفيد فوزي يوم مماتي، وقد نتف باروكته بالحلاوة، كي يذكر تاريخي ومحاسني وزُهدي في الحكم. ولا عماد الدين أديب سيقول "لقد اقترب مني طالب بلندن وحاول أن ينتحر لأن مبارك مات، لولا أنني أنقذته بمعجزة سماوية". ومقبرتي لن تكون أبدا في مصر الجديدة.
فعلا "القبر مالوش جيوب"، ولكن فيه قاعة لاستقبال الضيوف وساحة كبيرة للسيارات. صدقت، يا أبا علاء، والله ووفّيت، حيا وميتا.