إرث إرنِستـو كاردينال

إرث إرنِستـو كاردينال

05 مارس 2020
+ الخط -
رحل الأحد الماضي، عن 95 عاما، شاعر نيكاراغوا الأكبر، إرنستو كاردينال، أحد أكثر الأصوات تميزا وتأثيرا في المشهد الأدبي الثقافي في نيكاراغوا لعقود. ولعل اللافت في مسار هذا الشاعر أن تأثيره في الحراك الثقافي والسياسي العام في بلاده لم يتأت، فقط، من مكانته الشعرية والأدبية، بل أيضا، من المسافة التي حرص، دائما، على أن تفصل بينه وبين السلطتين، الدينية والسياسية. 
كان إرنستو كاردينال رجل دين معروفا في بلده. درس اللاهوت في المكسيك في مطلع الستينات. وبعد عودته إلى نيكاراغوا (1965) اعتكف في إحدى جزر أرخبيل سولينتينامي في ''بحيرة نيكاراغوا الكبرى''، وأسس جماعة للمثقفين والتشكيليين ''البدائيين''، في سعيٍ منه إلى إعادة اكتشاف الروح النيكاراغوية الأصيلة بمختلف روافدها. وشكلت هذه التجربة محطة فارقة في مساره الأدبي والإنساني، كان من ثمراتها كتابه ''إنجيل سولينتينامي'' الذي كان بمثابة بيان تاريخي للاهوت التحرير في نيكاراغوا. وفي الوسع القول إن هذا الكتاب فتح أفقا لمصالحة اللاهوت المسيحي النيكاراغوي، من جهة، مع بيئته كما يُجسدها أرخبيل سولينتينامي، ومن جهة أخرى مع قيم الماركسية ومبادئها، ضمن رؤيةٍ جديدة تستبطن الطاقات الإنسانية الكبرى لهذا اللاهوت، لأجل توظيفها في معركة العدالة الاجتماعية. ولذلك، نادى كاردينال بأن تفتح الكنائسُ أبوابها أمام الفقراء، وتشتبك بأحلامهم البسيطة، وتكفَّ عن النظر إليهم رعايا لها.
أصبح كاردينال أحد رجال الدين الأكثر تأثير في الحرك الاجتماعي والثوري في نيكاراغوا. وعُرف بصلاته مع اليسار في أميركا اللاتينية، وسرعان ما أصبح أحد الوجوه البارزة في الثورة الساندينية. ومع انتصار الأخيرة وإطاحتها حكم الديكتاتور أناستاسيو سوموزا (1979) عُين وزيرا للثقافة. بيد أن ذلك لم يحدّ من نبرته النقدية، خصوصا إزاء الكنيسة الكاثوليكية في نيكاراغوا التي رأت في تعيينه وزيرا في حكومة ماركسية، خروجا عن تقاليدها. وتظل صورةُ كاردينال، وهو يتلقى تقريعَ البابا الراحل، يوحنا بولس الثاني، في حفل استقبال الأخير في المطار حين زيارته نيكاراغوا (1983)، الأكثر تعبيرا عن الارتجاج الذي أحدثه لاهوت التحرير داخل الكنيسة النيكاراغوية والفاتيكان على حد سواء.
لم تكن الكنيسة تنظر بعين الرضا إلى التحولات الاجتماعية والثقافية التي كانت تعرفها نيكاراغوا بعد وصول اليسار السانديني إلى الحكم، إذ كانت تعتبرها مصدر تهديد لمصالحها ومصالح اليمين المحافظ. ولذلك كانت أفكار كاردينال محرجةً ومُدينة لها، وخصوصا أنها كانت ترتبط بتحالف استراتيجي مع أسرة سوموزا التي حكمت نيكاراغوا بين 1934 و1979.
وأمام رفض كاردينال الامتثال لرغبة الفاتيكان والكنيسة في نيكاراغوا بالاستقالة من منصبه، أصدر البابا قرارا بمنعه من مزاولة نشاطه الديني، قبل أن يعود البابا الحالي فرنسيس ويعلن، في السنة الماضية، رفع هذه العقوبة عن كاردينال في ما اعتبر رد اعتبار متأخرا له.
لم يقتصر الحس الثوري لدى كاردينال على الكنيسة، فقط، بل طبع، أيضا، علاقته برفاقه في الثورة الساندينية الذين نالهم قسط غير يسير من انتقاداته، فلم يتردد في انتقاد نزوع الرئيس دانيال أورتيغـا إلى الاحتفاظ بالسلطة، إذ اعتبر ذلك خروجا عن مبادئ الثورة، ما عجّل بانسحابه من جبهة التحرير الوطني، والتحاقه بأحد أجنحتها التصحيحية.
عُرف بانحيازه لقيم الحرية والعدالة الاجتماعية، ومناصرته نضال البسطاء والمستضعفين في معارك الحياة المختلفة. وقد قُدر لصاحب هذه الكلمات أن يتعرّف إليه، قبل سنوات، خلال المهرجان الشعري الذي يُنظم كل سنة في مدينة غرناطة في نيكاراغوا. وعلى الرغم من تقدّمه في السن، كان يشعرك بأن هناك الكثير مما يمكن إنجازه في هذا العالم المثقل بانهياراته. كان واسع الثقافة ومطلعا على التجارب والخبرات النضالية لشعوب أميركا اللاتينية، ومنحازا للشعوب المستضعفة. ولا زلت أذكر قصيدته المدهشة التي قرأها، في الأمسية الافتتاحية، وكانت عن المتحف العراقي الذي تعرّض للنهب بعد الاحتلال الأميركي لبغداد. وعلى الرغم من نبرة الاحتجاج البادية في القصيدة، إلا أنها كانت عميقة وكاشفة على موهبته الشعرية الفذة.
خلّف كاردينال إرثا أدبيا وثقافيا ونضاليا زاخرا، يضعه ضمن الشخصيات الأكثر تأثيرا في نيكاراغوا عقودا.