كورونا وفيروسات أخرى

كورونا وفيروسات أخرى

31 مارس 2020
+ الخط -
يحتاج الإنسان، أي إنسان، إلى تفسير، أي تفسير، يحتاج إلى ما يخبر به نفسه، إلى عزاء، فلا يمكن أن يتحمل طوال الوقت نتائج فعله، أو لا فعله، فإذا خرجت الأمور عن السيطرة، وأصبح لا يملك حيال واقعه شيئا، تزداد حاجته واستعداداته إلى التبرير، والتفكير العبثي، الخرافي، واتهام الآخرين، تتحوّل المؤامرة إلى عُصاب، تحلّ السماء محل الأرض، إيمانا وكفرًا، فهو إما يتوقع منها ما ينصفه، أو يحملها المسؤولية عما أصابه، وفي الحالتين هو غائب، ولا دخل له، ولا حول، ولا قوة.
تفسيراتٌ لكثيرين لفيروس كورونا، وقفزاتها، من عقوبة إلهية للآخر، انتقاما لنا، إلى مؤامرة الآخر علينا، انتقاما منا. تتباعد التفسيرات، تتباين، تتنافر، إلا أن الآخر هو الحاضر، دائما، غالبًا أو مغلوبًا. الآخر طوال الوقت هو مركز تفكيرنا وتوجيهنا، الحملات على التبعية والتغريب والأمركة، ولافتات الاستقلال الحضاري، والخصوصية الثقافية، التي مرت من تحتها فيروسات فكرية كثيرة أصابتنا جرّاء الخروج من التاريخ، أو إليه، لم تفلح في صرف العقل العربي عن "حذو" الآخر، سلبا، وإيجابًا، وتحوله إلى "عقدة".
قديما كنا نردّد "نكتة" على مقاهي وسط المدينة، نستهدف بها بعض أصدقائنا الشيوعيين الراديكاليين، فنقول إن حنفية المياه في الحزب لو اختلت فإن أميركا هي من خربتها. الأمر لدى الإسلاميين يتجاوز الأميركان إلى "الجميع"، فالغرب، كله، يتآمر. يتآمر بالأفكار، بالفلسفة، بالاستشراق، بالسينما، ويوجه كل مؤامراته، فقط، وحصريًا للإسلام. كما أن المسلمين بدورهم يتآمرون على أنفسهم، فأسئلة النهضة، بالنسبة للمحافظين، روادها، كلهم، متآمرون، أو مغرّر بهم من متآمرين، الطهطاوي والأفغاني ومحمد عبده، وغيرهم، مؤامرات تمشي على الأرض. نقرأ ذلك عند محمد محمد حسين في كتابه الذائع "الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر"، يتجاوزه أنور الجندي، أحد أهم منظّري الصحوة الإسلامية، في كتابه "المؤامرة على الإسلام"، ويعتبر أن مجرد الاهتمام بالمدارس الفكرية المتنوعة في تاريخ الإسلام محض مؤامرة استشراقية وقع في حبائلها بعض المسلمين، ولا يعدو نشاطا علميا يتمثل في تحقيق كتاب عن المعتزلة كونه مؤامرة على الإسلام، الاهتمام بتراث التصوّف مؤامرة، القراءات غير الرسمية للتاريخ مؤامرة، استدعاء الحلاج، القرامطة، ولو للدرس والبحث، محض مؤامرة على الإسلام. في كتاب آخر، هو "إعادة النظر في كتابات العصريين"، يرى الجندي أن مجرد الاقتراب من كتابات رواد النهضة، وإعادة تحقيقها، هو مؤامرة ماركسية على الإسلام، تبناها واحد من "عصبة العلمانية أعداء الشريعة الإسلامية"، بتعبيره، هو محمد عمارة!، والكتاب طبعة 1985، أي بعد استقرار عمارة في معسكر الإسلام السياسي، إلا أن مجرّد تبني عمارة تفسيراتٍ تعلي من قدر المعتزلة، وترى في بعض تيارات الفكر الإسلامي، في سياقها التاريخي، محاولاتٍ لمعارضة الدولة العثمانية، وتنحاز إلى منتجات العقلانية الإسلامية في التراث وفي عصر النهضة، كل ذلك اعتبر مؤامرةً على الإسلام، من داخله، كذلك خالد محمد خالد، (لاحظ: في الثمانينيات) فقد كان عدوا للإسلام، لأنه يرى فيه نزوعًا إلى الديموقراطية والاشتراكية، بالإضافة إلى اهتمامه بإخوان الصفا. يضعه ذلك كله في عداد المتآمرين أعداء الشريعة، هو، وعمارة، وغيرهما من المتآمرين، من أبناء الشريعة نشأة وتعليمًا وتجربة وممارسة، ومشروعا، فالخلاف، مجرد الخلاف، لا يعني سوى المؤامرة، فما بالك بالفيروسات؟!
تأثر جيل كامل من الصحويين بكتابات محمد محمد حسين وأنور الجندي، وغيرهما ممن يحملون الحسّ نفسه، أمثال محمد قطب، ومحمد سعيد رمضان البوطي، وعبد الرحمن رأفت الباشا، وجمال عبد الهادي، وهم من صبغوا رؤية جيلين من الوعاظ والدعاة والكتاب، واضطر كتّاب وباحثون جادّون أحيانًا لمجاراتهم، ليجدوا مكانًا لهم بين الشباب الذي لم يعد يرى في كل ما يحدث حوله سوى محض مؤامرة، وهو ما يجعل من محاولة التفكير خارج كهف المؤامرة سوى مؤامرة على المؤامرة، لن تفضي إلى شيء غير مزيد من التشبث بالتفسير نفسه، فهو على كل الأحوال، أريح. فاللهم أرحنا.

دلالات