كورونا والطاعون .. الشيء بالشيء يُذكر

كورونا والطاعون .. الشيء بالشيء يُذكر

31 مارس 2020
+ الخط -
بعد أن تفشّى وباء كورونا في أربع جهات الأرض، وتعاظم الهلع لدى الناس، كل الناس، كان من الطبيعي أن تهجس أفئدة الآباء والأمهات والحكومات بالأسئلة المفعمة بعدم اليقين، وبالفزع العميق، إزاء حاضر يسوده اضطراب عظيم، ومستقبل ملبد بشتى الأخطار، فيما انصرفت أذهان المهمومين بصد "الذعر العام" المتفشّي بدوره كالوباء، تُنقب في وقائع التاريخ، في الروايات، في الخرافات، وفي الأفلام، عن الكيفية التي واجه بها أقوام الأزمنة الغابرة مثل هذه الجائحات. 
في الأخبار التي لا تكاد تجد لها مكاناً وسط هذا السيل العارم من تطورات الوباء المتفاقم على طول الخط، جاء أن مبيعات رواية "الطاعون" لصاحبها ألبير كامو ارتفعت على نحو غير مسبوق، لا سيما في إيطاليا وإسبانيا وفرنسا، حيث الكارثة المعرّفة بالألف واللام، وقيل إن هذه الرواية التي تُرجمت إلى عدة لغات، وبيع منها ملايين النسخ، تحولت إلى أشهى الوجبات الأدبية المفضلة على موائد المتعطلين عن أشغالهم، المعزولين في بيوتهم بأمر قائد الذعر العام، الجنرال كوفيد 19.
ومع أن هذه التحفة الأدبية التي أصدرها الروائي الجزائري ــ الفرنسي ذائع الصيت عام 1947، صاحب جائزة نوبل للآداب عام 1957، ليست عملاً تاريخياً، ولا كاتبها يدّعي ذلك، إلا أن الوسواس الذي استبدّ بالناس جرّاء تفشّي كورونا أثار في النفوس رغبة في التعرّف على ماهية الحياة في زمن الطاعون، وكيف أدار المجتمع شؤونه وشجونه، وواجه الآفة، وفق ما تجلّت عنه المشاهد الروائية التي بدت كأنها نوع من التأريخ لحقبة من أربعينيات القرن الماضي، عاشتها وهران "المدينة الفرنسية على الشاطئ الجزائري" (كذا).
كان لدي شغف دائم بالوقوف على شيءٍ من التاريخ الاجتماعي للشعوب التي حصدها الطاعون حصداً، وهو أمر اعتنى به الروائيون الكبار، أكثر مما حفل به المؤرّخون الثقات. لذلك أعدتُ مطالعة "الطاعون" بشكل انتقائي، ما حرمني متعة القراءة، ولكنه أسعفني في الكتابة، حيث تركّز اهتمامي على الإحاطة بما سوف أعرضه في هذه العجالة، التي لا تدخل في باب النقد الأدبي، ولا تلج عوالم التعليق السياسي البحتة.
حين يدوّن المؤرخون حكاية فيروس كورونا في زمن لاحق، ويسرد الروائيون لنا البعد الاجتماعي من وقائع هذه الحقبة، سيكون لديهم ما يكفي من البيانات والإحصائيات والأشرطة والوثائق، لسرد هذه الحكاية بكل تفاصيلها المملة، فيما لا نكاد نعثر إلا على أقل القليل مما تزوّدنا به الروايات الملحمية، عما جرى لأجداد الأجداد في الأزمنة الغابرة، تماماً على نحو ما سجّله ألبير كامو، اعتماداً على شهادات شهود، ومشاهدات عيانية، وأقاويل شفاهية، عن حياة الجزائريين وتقاليدهم ونضالهم ضد الاستعمار والتخلف والمجاعة والطاعون.
على أي حال، لم تُشبع هذه الرواية، المصنفة ضمن أفضل الإصدارات في القرن العشرين، ما يستجيب لحب الاستطلاع الكامن لديّ، أو حتى الإلمام بمكونات الصورة البانورامية لشعوب جنوب البحر المتوسط وشماله، إبان الفترة التي انتشر فيها الطاعون، واختطف أرواح ملايين الناس، وكانت الملايين قليلة في حينه، أقول ذلك مع الإدراك المسبق بأن ألبير كامو ليس مؤرخاً، وإن وهران، حيث جرت الوقائع الروائية، مجرّد مدينة متخيّلة، أو قل صورة من ألبوم متوسطي عريض.
خارج نص "الطاعون" المترجم إلى العربية قبل أربعين سنة، كانت جائحة ما عرف باسم الموت الأسود الذي عم أوروبا في أواسط القرن الرابع عشر، وأزهق أرواح نصف سكان القارة البيضاء، أشد فتكاً مما وقع في حوض البحر المتوسط في أوائل القرن العشرين، وليس هناك إلا نزر يسير من الحكايات المماثلة، عن تداعيات هذه الآفة على حضارات الأولين، سواء في الزمن البابلي أو في مطلع الفتح الإسلامي لبلاد الشام.
نظر الأقدمون إلى آفة الطاعون أنها إحدى تجليات غضب السماء عليهم، جرّاء ما ارتكبوه من فواحش، وكانت الجرذان بطلة هذه الآفة، ولم يكن لدى الناس مصدّات غير الدعاء والتوسل والفرار. وما دام الشيء بالشيء يذكر، ها نحن ننظر اليوم إلى كورونا على أنها جراء عبثنا بالطبيعة، وها هو بعض منا يحاول تسييس الفيروس، بوصفه مؤامرة كونية، وها هي نابولي الإيطالية تذكّرنا بوهران الجزائرية.
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي