وباء التوحش ينتعش في زمن كورونا

وباء التوحش ينتعش في زمن كورونا

28 مارس 2020
+ الخط -
ارتفعت أصوات قليلة ينادي أصحابها بالتكاتف الإنساني، وحفظ الأمن الصحي الجماعي أمام وباء يستهدف البشرية، منها على الخصوص نداءات الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، إلا أن الاستجابة لهذه النداءات بقيت ضعيفة، بحكم انشغال الدول والمجتمعات بمواجهة الخطر المحدق بها، ونظرا إلى أن مبادرات التعاون لا تلقى تفاعلا لدى دول وأطراف لا تهجس إلا بتحقيق مكاسب ذاتية (قومية).. وليذهب الآخرون إلى الجحيم.
غير أنه عدا هاتين الفئتين، ثمة فئة ثالثة، أيقظ لديها وباء كورونا أوبئة فكرية كامنة تتعلق بنزعتها العنصرية، وبجنوحها الفظ إلى التوحش، واهتبال كل الفرص للكشف، بغير خجل أو وجل، عن عقائدها السياسية المعادية للكرامة البشرية، ولحق الآخرين في الحياة. وهو ما عبّرت عنه دولة الاحتلال الإسرائيلي التي جابهت الدعوات إلى إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين لديها (نحو سبعة آلاف) بقدر كبير من الاستخفاف والسلبية. وحتى الدعوات التي وجهت إلى سلطات الاحتلال بعدم تعريض الأسرى إلى مخاطر الإصابة بالوباء والحؤول دون تفشّيه بينهم، فقد قوبلت بالصمم الإرادي والسلبية المتعمدة، ولسان حال سلطات الاحتلال في ذلك أنها غير معنية من قريب أو بعيد بسلامة الأسرى أو بإبداء أدنى درجات الحرص على حياتهم. وكانت السلطة الفلسطينية في رام الله والقائمة العربية المشتركة لفلسطينيي الداخل قد وجهت دعوات بهذا الخصوص، وعلى الرغم من محادثة هاتفية جرت بين الرئيس الفلسطيني محمود عباس ورئيس دولة الاحتلال رؤوفين ريفلين حول أهمية التنسيق بين الطرفين لمواجهة مخاطر هذا الوباء.
ولم تكتف سلطات الاحتلال بذلك، إذ عمدت إلى التعامل مع عمال فلسطينيين يعملون داخل الخط الأخضر، وتم الاشتباه بإصابتهم بالوباء، خلال تأديتهم أعمالهم (في مجال البناء على الأغلب) إلى انتزاع هؤلاء من أماكن عملهم وقذفهم إلى أقرب منطقة في الضفة الغربية المحتلة، وهم في حالة إعياء شديد بدون توفير أية رعاية طبية، أو القيام بأي إجراء من إجراءات الإسعاف الأولي. وقد تكرّر هذا السلوك العنصري لدى عودة طلبة فلسطيين من حملة الجنسية الإسرائيلية من 
إيطاليا إلى ديارهم، حيث أخضعوا لإجراءات الحجر الصحي، ولكن في ظروف مزرية أقرب إلى الحجز، وتم نقلهم بحافلاتٍ قديمة مهترئة، لا تتسع للعائدين، وعددهم نحو مائتي شخص. والرسالة تكرارا هي أن سلامة هؤلاء وحياتهم لا تعنيان سلطات الاحتلال التي لم تكلّف نفسها توضيح حقيقة ما يحدث، ولا أبدت أية درجة من درجات التعاطف مع هؤلاء المصابين، وذلك فقط لكونهم عربا وفلسطينيين، ضاربة بحقوق المواطنة التي يتمتع بها العائدون عُرض الحائط. هذا في وقت نشرت فيه صحف إسرائيلية، في الأيام القليلة الماضية، مقالات عن أطباء وممرضين عرب في مستشفيات ومراكز صحية، يؤدون عملهم بتفان تجاه جميع المرضى والحالات الطبية بغير تمييز.
وفي واقع الحال، يتساوق هذا المنحى العنصري الذي يحرص أصحابه على عدم كتمانه مع مناخ السعار المتطرّف الذي تبثه جوقة الأحزاب والتيارات المتطرّفة ضد الاعتراف بالمكون العربي، بوصفه طرفا أصيلا في التمثيل النيابي، وهو ما حمل رئيس كنسيت سابق، هو أبراهام بورغ، على وصف الصهيونية بأنها لا تعني شيئا في هذه الفترة سوى العنصرية. وصوت بورغ من الأصوات القليلة التي تدين، بشجاعة، الفجور العنصري الذي يتفشّى أكثر من وباء كورونا في المجتمع الصهيوني.
ولا يكتمل مشهد الاستثمار في الوباء إلا بمعاينة جوانب أخرى منه، ففي ليبيا، لا يتردّد، في هذه الظروف، الجنرال خليفة حفتر في قصف مدينة طرابلس، مراهنا على أن أجواء الحذر من الوباء سوف تضعف الجهوزية العسكرية لدى حكومة الوفاق الوطني، هذا في وقتٍ يدّعي أنه ملتزم بوقف إطلاق النار. وفي بلد عمر المختار، تواترت الأنباء، خلال الأسبوعين الماضيين، عن تدفق مزيد من المرتزقة الروس المنضوين في فرقة فاغنر للقتال الى جانب حفتر، إضافة إلى عناصر من حزب الله الإيراني/ اللبناني الذي يطمح إلى أن يكون ذراعا إقليميا للتوسع المذهبي والقومي لإيران في المنطقة العربية، وهو ما فعله من قبل في سورية والعراق واليمن. وحيث يباشر مجاهدو الحزب جهاداً مقدّسا بلا هوادة ضد الأغلبية الإسلامية السنية، وتحت شعارات طائفية فجة، حيثما تسنى للحزب ذلك، بل رفع هذا الحزب هذه الشعارات في وجه المنتفضين اللبنانيين الذين ينادون بنظام غير طائفي في موطنهم.
وفي سورية، لم تلق دعوة وجهها، قبل أيام، المبعوث الأممي، غير بيدرسن، للإفراج عن آلاف 
المعتقلين آذانا صاغية لدى سلطات دمشق التي طالما رفضت دعوات أطراف دولية عديدة إلى إخلاء سجونها من المعتقلين لأسباب سياسية، وذلك على الرغم من التزامات لفظية عبّر عنها مفاوضون للسلطات في محفل أستانة بالنظر في قضية المعتقلين. وتشتد المخاوف من أن ينتشر الوباء في صفوف هؤلاء، والذين لا تتوفر إحصائيات موثقة عن أعدادهم، ولكن مصادر المعارضة السورية تتحدث عن عشرات آلاف من المعتقلين، على الرغم من قرارات العفو التي صدرت في دمشق، وبلغت، منذ اندلاع الأزمة قبل تسع سنوات، نحو 17 قرارا أو مرسوما بالعفو. وكل ما يحدث باستمرار هو الإفراج عن عشرات المعتقلين بموجب المرسوم، ثم يجري زج مئات من معتقلين جدد وراء القضبان. هذا في وقتٍ لم تسلم فيه قرى من منطقة إدلب من الاستهداف بالقصف في الأيام الأخيرة الذي يطاول، على الخصوص، الأحياء السكنية، على الرغم من اتفاق وقف إطلاق النار الذي جرى التفاهم عليه في موسكو بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان يوم 6 مارس/ آذار الجاري.
وبينما أخذ وباء كورونا يتسلل إلى القارة السمراء، وتزداد المخاوف من مخاطر انتشاره وسط بلدان أفريقية، ذات بنية طبية وإدارية ضعيفة، فإن ذلك لم يحُل دون مواصلة جماعة بوكو حرام أنشطتها الدموية في نيجيريا، وحيث شهد الأسبوع الماضي جولاتٍ من المواجهات العنيفة بين هذه الجماعة الإرهابية وقوات الجيش النيجيري، أسفرت عن سقوط وجرح عشرات من الجانبين. ولا تتوانى هذه الجماعة التي تدين بالولاء لمنظمة القاعدة عن مد نطاق جرائمها إلى دول مجاورة مثل تشاد والكاميرون.
هكذا والنظر إلى هذه النماذج، فإنه لا يعود مستغربا ألا تبدي البيئات التي تزدهر فيها العنصرية والتوحش أية مراجعة لسلوكها في ظروف انتشار وباء عالمي، بل إنها، خلاف ذلك، ترى في هذا الظرف الاستثنائي فرصة تستحق اغتنامها لتحقيق انتصارات رخيصة على المدنيين هنا وهناك.