لن تروا الله بالميكروسكوب

لن تروا الله بالميكروسكوب

28 مارس 2020
+ الخط -
تتحدّث النكتة القديمة الجديدة عن البخيل الذي ينعى والده "ويُصلح ساعات"، والواقع القديم الجديد هو عن مؤدلجين يستغلون جائحة عالمية لإثبات أفكارهم. كتب أحدهم "يبدو أن المجتمع موافق على انتهاك الحرية الشخصية للناس كافة، وحبسهم قسرا في بيوتهم، لأن طائفة من المجتمع اسمهم الأطباء رأوا أن هذا فيه صالحهم". 
يُنهي منشوره بسباب بذيء للعلمانيين، على الطريقة الجديدة للإسلامي "الثاج لايف"، الذي شهدناه سابقا في موقعة "جهاد الريآكت". يتلقف المنشور الشيخ الأزهري، أنس السلطان، مضيفاً إليه قوة العمامة، ومغيراً اللغة إلى سُباب مهذب لـ "أغبياء العلمانيين".
يضيف الشيخ أنس توضيحا: "خبر فيروس الكورونا صادق ثبت صدقه بالتواتر فصدّقناه، والمقصود بالمنشور وجوب تصديق ما ثبت بالخبر الصادق الوارد عن الصادق المصدوق".
هذه المقارنة العجيبة مليئة بالمغالطات المسيئة للدين نفسه قبل أي شيء آخر. أولاً هي مقارنة بين عالمين مختلفين، كسؤال هل الزرافة أطول أم التفاح أشهى. الفيروس ليس "خبرا صادقا"، بل هو حقيقة مادية، يمكن لأي إنسان أن يراه بعينيه تحت ميكروسكوب إلكتروني.
هل سترون الله جهرة بالميكروسكوب؟ يقيس جهاز "بي سي آر" كمية الحمض النووي للفيروس الذي يزيد وينقص في الجسد، هل هناك جهاز يمكنه قياس نسبة الإيمان الذي يزيد وينقص بالنفس؟ وهو ما ينطبق على المفاهيم المعنوية بالعموم، كيف سترى السعادة أو الرضا تحت الميكروسكوب؟
والعلم المادي بالتعريف هو ما يخضع "للتجربة والقياس والتكرار"، أي أن الجهاز سيظهر النتائج نفسها في مصر والصين والبرازيل وكندا. هل يؤدي الدعاء من أي إنسان بأي دين إلى النتيجة نفسها دائما؟ ومن هذه القواعد، تم اشتقاق "التجربة ثنائية التعمية"، التي لا بديل عنها لإقرار الأدوية، وهي بتبسيط أن تُقسم عينةً من المرضى إلى مجموعتين، تتلقى إحداهما الدواء الجديد والأخرى تتلقى علاجاً وهمياً أو قديماً، وذلك من دون علم منهم، لاستبعاد التوهم. هل يمكن أن نُجري تجربة ثنائية التعمية لقياس قوة الدعاء؟ القرآن امتدح من "يؤمنون بالغيب"، وقال إن الله "يقضي بينهم يوم القيامة"، فكيف يجرؤ عاقل على أن يقارن الإيمان بالخالق بما سمّاه "الإيمان بالفيروس"؟!
المغالطة الثانية افتراض أن فئة تحمل علما ما، هي هنا الأطباء، تسلطت على الناس لإجبارهم "على ما فيه صالحهم بناء على أدلة لديهم"، ولكن ما حدث هو أن الأطباء لم يقرّروا، بل رفعوا رأيهم العلمي إلى حكومات منتخبة ديمقراطيا في غالبها، أي أن القرارات صدرت باسم "سيادة الشعب" لا "الحاكمية العلمية"، وهذه الحكومات ستخضع للحساب الشديد في أول انتخابات قادمة. وهذه الحكومات لم تتساوَ في استجاباتها، بعضها فرض إجراءات العزلة الاجتماعية مبكّرا، وبعضها قرر التأخير أو الاجتزاء لاعتبارات عوامل أخرى كالاقتصاد.
مغالطة ثالثة هي تجاهل أن العلم المادي من صفاته، بالتعريف أيضا، "القابلية للدحض". شهدنا بسرعة كيف تختلف التوصيات، والبروتوكولات العلاجية، فور ظهور ورقة علمية جديدة. تاريخيا شهدنا كيف قلب علماء كل ما سبقهم فور إتيانهم بدليل جديد، مثل أينشتاين أو هوبكنز. لم يقل أحد لهم إنهم "خالفوا إجماع العلماء".
مغالطة رابعة هي افتراض التسليم التام أصلاً بالإجراءات، فحتى بعد كل الإثباتات العلمية، يجادل باحثون وسياسيون عن ضرر توسيع سلطة الدولة، كما أن أفراداً بلا حصر يخالفون التعليمات فينزلون إلى الشوارع، أو يقيمون حفلات منزلية مزدحمة، ولم نر أبداً رد فعل شعبياً غاضباً يعتدي بالعنف على المخالفين.
وبعيداً عن المغالطات، فإن السياق العام أهم. بالتأكيد ليست مشكلة العالم العربي الحالية أنه يعاني من الإفراط في الحريات! فلتطمئنوا، الحريات السياسية والاجتماعية والشخصية مقيدة بالفعل، لكن بعضهم يفضل معركة فكرية مع أقلية بالمفهومين، الشعبي والرسمي، لصالح تجنب الاشتباك مع الطرف الأقوى. والنموذج العكسي موجود أيضا، ثمّة "تنويريون" رأوا في الأحداث فرصة للمزايدة على الإسلاميين بشأن غلق دور العبادة، من دون أن ينبسوا حرفاً عن دور الحكومات في توفير الرعاية الصحية والعدالة الاجتماعية. .. كورونا ليست الفيروسات الوحيدة في بلادنا.

دلالات