دعاء أمي

دعاء أمي

25 مارس 2020

(لؤي كيالي)

+ الخط -
في مثل هذا اليوم، قبل عشر سنوات، كنت أقوم بعادة اكتسبتُها خلال شهر فقط، فقد كنت أجوب طرقات المستشفى الحكومي، وأنتظر. لا أفعل سوى ذلك، مع تمتمات خافتة بالدعاء، ودموع صامتة، فالراقدة على سريرٍ في غرفة الإفاقة الفائقة هي أمي، وكنت أتوقَّع أنها ستقف، وتغادر الغرفة وتعود معنا إلى البيت، ولكن ذلك لم يحدث. 
لم يخبرنا الأطباء أنها تجود بأنفاسها الأخيرة في الحياة، ولم يردّ أحد الممرّضين على سؤالي المستغرِب لإزاحة الشاشة التي تشير إلى عمليات جسمها الحيوية عن ناظري، ولم يعد هناك شاشةٌ تحمل لي أرقاما ببارقة أمل. فقط أنظر إلى أنابيب التنفُّس المتدلية، وأتنهد، وأهمس لها بعبارات تشجيعٍ واهية، مللت من تكرارها؛ لأنها لم تقف.
ولا مرّة أخلفت أمي الظنون، فكل مرة كانت تعود قوية؛ لكي تبقى بيننا، كل وعكة تمرّ بها، ونعتقد أنها النهاية، فأزمة ربوية حادّة، حسب وصف الأطباء كفيلةٌ بأن تقتل حصانًا، فكيف بجسدٍ ضئيل الحجم مثل جسدها، ولكنها كانت تصارع، وتقف، وتعود إلى مطبخها الصغير، وتسألنا: ماذا تريدون أن أجِّهز لكم على العشاء؟
في المرّة الأخيرة التي كانت في بيتي، وجلست قبالة النافذة المفتوحة، والمطلَّة على أشجار الحديقة، على اعتقادٍ منها أنها سوف تتنفس أفضل، فيما كان صدرها يعلو ويهبط، كعادته، منذ وعيتُ على الحياة. قالت لي بصوت مفعم بحبِّها، بعد أن وضعتُ طبقًا من طعام محبَّب أمامها: الله يطعمك بأولادك.. والمعنى لمن لا يفهم اللهجة الفلسطينية، والذي اختصرته أمي بدعاء قصير من ثلاث كلمات: أن يكبر صغارُك المتقافزون حولك اليوم، ويعملوا، وينجحوا، ويصبحوا من ذوي المال الوفير، فينفقوا عليك بسخاء، ولا يحرموك من شيء، فتنعُمي بعزِّهم وثرائهم...
ما أجمل دعاء أمي هذا! فرحتُ يومها به، وكنت واثقة أنه سيحدُث يومًا. ولكني اليوم، وأمام عدوٍّ مجهول شرس، يهدِّد البشرية، أسرح وأهمس لنفسي: ليت أمي تداركت نفسها؛ فانطلق لسانُها بدعاءٍ آخر ظاهرُه لي، وباطنه لأولادي، وهو "يا ربّ ما يحرمك من أولادك"..
لأمي دعاء لا أنساه. حين كنتُ في الثامنة من عمري، وصوتها يعلو بأنين موجع، وهي في حالة مخاضٍ في الغرفة المجاورة لغرفة نومي، وكنت أنتظر أن أسمع صوت المولود؛ لكي ألاعبه، وأمارس أمومتي الأولى معه، ولكن ولادة أمي الأخيرة تعسّرت، وصرتُ أذهب؛ لكي أسحب القابلة من بيتها، عدّة مرّات في اليوم، ورأيت بعيني الذكيّة أنها باتت تختلق الحجج الواهية؛ لكي لا تصحبني إلى بيتنا، فقد رأتْ أن ولادة أمي متعسِّرة، وأمي وجدَّتي لا تؤمنان أبدا بالأطباء والمشافي. ولذلك ظلت أمي تعاني أسبوعا، حتى فاض الكيل بأبي الذي يذهب ويعود من عمله، والحال على ما هو عليه، فقرّر أن يذهب بها إلى المشفى، متحدّيا قوانين صارمة وموروثة، فكيف للمرأة أن تنكشف على طبيب، وهي في حالة ولادة، ولكنه حملها إلى المشفى، فيما كانت جدّتي تتمتم: شو رح يعمل الحكيم؟
وهي على وشك أن تضع المولود الأخير، دعت أمي الدعاء الذي كان باب السماء مفتوحًا له، كما قالت، فيما قالت جدّتي: دعاء المرأة، وهي في حالة مخاض، لا يُردّ، فهي تكون بين "روحين".. كان دعاء أمي بالصيغة الآتية: يا رب لا تأخذ مني ولا تعطيني.. وهكذا اطمأنتْ أمي على إجابة دعوتها؛ فوضعت مولودها الأخير، ولم تحمل بعدها، على رغم صغر سنِّها وقتها، وقضت عمرها كلّه، ولم تر بأسًا بأحدنا، حتى رحلت، من دون وجع فقْدٍ على ولد، وهو أشدُّ الأوجاع عليها، لو حدث، وكأن السماء قد سمعتْ ووعتْ وجع هذه المرأة التي يقف الموت حاملًا منجله فوق رأسها كثيرًا، ثم يتراجع مع كلّ أزمةٍ ربوية حادّة تهاجمها، في الليالي الطويلة، وتعود من المشفى، بعد أن تُنزع أنابيب التنفُّس الصناعي عن وجهها؛ لتقف في مطبخها، وتسأل أبناءها سؤالها المقدَّس: ماذا تريدون أن أجِّهز لكم على العشاء؟
avata
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.