جوزف أوكونور في "حفل الظلال"

جوزف أوكونور في "حفل الظلال"

24 مارس 2020
+ الخط -
"يشبه المكان إلى حدّ كبير الريف الإيرلندي، ومع ذلك، فهو لا يشبهه أبدا. ثمّة ما هو مختلف وعصيّ على التعريف، نوعية معينة من النور، حزن ما، ربما غيابٌ هو حضورٌ معيّن. أهلا بكم في غيابٍ اسمه إنكلترة".
هكذا يصف الكاتبُ الإيرلندي، جوزف أوكونور، أجواء روايته التاسعة التي تحمل ترجمتها الفرنسية عنوان "حفل الظلال" (2020)، في حين أن عنوانها الإنكليزي هو "مسرح الظلّ" (2019). تدور أحداث الرواية في لندن خلال الحقبة الفيكتورية، حيث يعيش برام ستوكر، (مؤلّف رواية "دراكولا" لاحقاً) الذي يعمل مديراً لمسرح في لندن، خلال 20 عاماً. وُلد برام عام 1874 شمال دبلن، وبعد الانتهاء من الدراسة، عمل موظفا في العاصمة الإيرلندية. إنه عاشق للمسرح، وهو غير سعيد في حياته في دبلن، لذا تراه يلجأ إلى الكتابة، علّها تتيح له بلوغ حياة أخرى. ذات مساء، سوف يلتقي برام بهنري إيرفنغ، أهمّ ممثّلي عصره آنذاك، فتنقلب حياتُه رأساً على عقب، إذ أنه سيصبح مديراً لمسرح ليسيوم في لندن، بعد أن اشتراه إرفينغ.
يسرد أوكونور قصة حياة برام ستوكر، قبل أن يصير كاتبا بطريقة بارعة، معتمدا عدة وسائل وأساليب سردية، فهناك رسائل متبادلة، ويوميات نصف منجزة، ومقاطع يتم طبعها على الآلة الكاتبة، بحيث تتشابه طريقة بناء أوكونور مع أسلوب بناء "دراكولا" ستوكر. نحن إذاً في قلب قصةٍ داخل القصة، مع عناصر تشويق وفرضياتٍ خاطئة وتوقعاتٍ لا تحصل، ومفاجآت عديدة. نحن أيضا، خصوصا في قلب المسرح، حيث تؤدى مسرحيات شكسبير، وتُلعب شخصياتٌ من نوع دكتور جيكل أند مستر هايد، ويعمل نحو ثمانين شخصا في خياطة الملابس ورسم الديكور، وأيضا في العلية، حيث يعزل برام نفسه عن الآخرين لكي يكتب. هكذا نرى الممثل الشكسبيري الشهير يكتسي لحما ونبضا أمام أعيننا، ليصبح لاحقا مصدر وحي لاختراع شخصية كونت مخيف ومعروف جدا.
رواية "حفل الظلال" ملأى بإشاراتٍ ولمزاتٍ إلى أعمال برام ستوكر، كما أنها تُحيلنا إلى شخصياتٍ معروفةٍ عديدة عاشت في تلك الحقبة، فإذا بنا نتعرّف إلى سارة بيرنار الإنكليزية، الممثلة هيلين تيري التي تشكل مع برام وإيرفينغ الشخصيات الرئيسة الثلاث، أو نلتقي بأوسكار وايلد يحتسي كأس شمبانيا في كواليس المسرح، أو تصيبنا القشعريرة ونحن نعبُر بعض الأزقة ليلا، حيث يقتل جاك السفّاح المومسات المسكينات. أجل، سوف يشعر القارئ أنه يدخل في شبكةٍ معقدة، ويتعرّف إلى شخصيات سمع أو قرأ عنها، ويشتمّ روائح ماضية، ويتعرّف إلى تفاصيل بصرية دقيقة لأمكنةٍ بدّلها الزمن أو أنها لم تعد. والأهمّ من هذا كله، أنه سوف يسبر شخصية برام ستوكر الضخم، الملتحي، الكتوم، الذي يعمل بجهد في إدارة المسرح، مع نجمين قويي الحضور، في حين أنه يحلم، في سرّه، بأن يصير كاتبا، ولكن من دون أن يتمكّن من بلوغ هدفه. هكذا لا تعود الظلال المذكورة في عنوان الرواية هي أطياف الممثليْن المسرحييْن المشهوريْن فحسب، وإنما أيضا، خصوصا ظلال الشخصيات التي ترتعش في وجدان ستوكر، قبل أن تتشكّل فعليا وتتجسّد على شكل شخصياتٍ في الروايات التي سيكتبها لاحقاً.
وعلى الرغم من أن ما يرويه أوكونور عن كيفية تشكّل الشخصيات في وجدان برام ومصادر الإلهام لديه، ليس حقيقيا مائة بالمائة، وإنما متخيّلا، فإن الرواية تكتسب جمالها مما تتضمنّه من أسئلةٍ حول عملية الخلق بحدّ ذاتها: من أين يستمدّ الكاتب إلهامه؟ وكم هي نسبة الذاتي والشخصي ونسبة حيوات الآخرين في روايته؟ وإلى أي مدى تحوّله أعمالُه وتؤثّر عليه؟
وقد تشكّل إحدى جمل أوكونور في الرواية إجابة ما، حيث يقول: "حقوق التأليف شكلٌ من أشكال العجرفة والأنانية حتى بمعنى ما، إذ كيف يمكن لنا أن نتملّك عملَ المخيلة؟ ولمَ لا نحتسب ساعتئذٍ حق التأليف لغناء العصافير. أو للفجر".
نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"