هل يُنهي كورونا نزاع السلطة في تونس؟

هل يُنهي كورونا نزاع السلطة في تونس؟

23 مارس 2020
+ الخط -
قد لا تعكس الصورة التي نشرها موقع رئاسة الجمهورية التونسية الخميس، 19 مارس/ آذار الجاري، للاجتماع الذي جمع رئيس الدولة قيس سعيد برئيس البرلمان راشد الغنوشي ورئيس الحكومة إلياس الفخفاخ، للتداول في انتشار وباء كورونا في تونس، حقيقة العلاقة بين هذه الشخصيات القيادية في الدولة، فقد كانت الصراعات على أشدّها طوال الفترة التي تلت الانتخابات الرئاسية والتشريعية في شهر أكتوبر/ تشرين الأول 2019، وخصوصا بعد تولي الغنوشي رئاسة البرلمان، وسقوط حكومة الحبيب الجملي النهضاوية، لتحلّ مكانها حكومة الفخفاخ، أو حكومة الرئيس كما بات متعارفا عليه في معجمية المجتمعين، السياسي والإعلامي، في تونس. وهي صراعاتٌ باتت معلنة ومكشوفة للرأي العام الداخلي، وللقوى الدولية المهتمة بالشأن التونسي ومراكز نفوذها، قطباها الرئيسيان سعيّد والغنوشي. يستغل الغنوشي في إدارة البرلمان دائرة العلاقات الواسعة التي نسجها طيلة فترة منفاه في بريطانيا 20 سنة مع أحزاب سياسية وشخصيات كثيرة في العالم، منها من يشاطره الانتماء إلى الإسلام السياسي، على غرار الرئيس السوداني السابق عمر البشير والرئيس التركي رجب طيب أردوغان ورئيس الوزراء المغربي السابق، عبدالإله بن كيران، والقيادي الإخواني الليبي، علي الصلابي، وغيرهم ممن وصلوا إلى كراسي الحكم بعد سنة 2011. واستنجد بخلاصة ما اكتسبه من قدرة على المناورة، ومن تجربة في إدارة شأن الدولة من وراء ستار حكم الترويكا الأولى،
برئاسة حمادي الجبالي، والترويكا الثانية بقيادة علي العريض 2011 - 2013، وكذلك في أثناء دعمه حكومة التكنوقراط التي ترأسها مهدي جمعة سنة 2014، وإبّان مشاركة حزبه في حكومات الحبيب الصيد، ويوسف الشاهد (2015-2019)، فتكونت لديه شبكة علاقات متعدّدة الأطراف مع قوى حزبية وأخرى سياسية وقيادات في الحكم والمعارضة في المستويين، الوطني والخارجي، ما حوّل بناية حزبه الضخمة في تونس العاصمة إلى قبلة تؤمها شخصيات محلية ودولية، تستعيذ بها عن محاريب الحكم في قرطاج وباردو والقصبة، وذلك قبل الارتحال، بكل ذلك الإرث، إلى مجلس نواب الشعب، مركز الحكم التاريخي في تونس منذ زمن الحفصيين.
وعلى عكس هذا التوجه المستند إلى تجربة حزبية سرية وعلنية، طويلة وشاقة، في المعارضة والسلطة، بدأها الغنوشي في نهاية ستينيات القرن الماضي قوميا عربيا، وانتهى قياديا إسلاميا في تونس وخارجها، فإن سجلات قيّس سعيد وتجربته التاريخية خلت من أي انتماء سياسي يذكر، باستثناء إشارات عابرة عن توجهه القومي العربي الذي أشار إليه معاصرون له في أثناء فترة الدراسة في الجامعة التونسية. ولكنه يستند إلى بيوغرافيا أكاديمية نحت معالمها بحصوله على شهادة الدراسات المعمقة في القانون الدولي العام سنة 1985، وتولى التدريس مساعدا في كليتي الحقوق بسوسة وكلية العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية بتونس، من 1986 إلى 2018، تاريخ إحالته على التقاعد. وعلى طريقة الرئيس الفرنسي، ماكرون، صعد قيس سعيد إلى كرسي رئاسة الجمهورية التونسية، يوم 13 أكتوبر/ تشرين الأول 2019، مستندا إلى 
شرعية انتخابية كثيفة ناهزت 73% من الأصوات، من دون أن يُنشأ له حزب سياسي، أو يجتمع حوله ائتلاف حزبي، أو يقوم بحملة انتخابية تقليدية، أو أن يجمع مالا يعدّده وينفقه في الدعاية وكسب أصوات المناصرين والناخبين، مثل غيره من المرشّحين.
وعلى هذه الأرضية، غير المتوازنة من حيث التجربتين، السياسية والتاريخية، وتوظيفها في الحكم، تندلع منذ تولي راشد الغنوشي رئاسة البرلمان في 13 نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، معركة تنازع شرعية، ظهرت أول مرة في خضمّ تشكيل الحكومة، وبانت من جديد عندما حاكى رئيس البرلمان رئيس الجمهورية، وأشرف يوم 29 ديسمبر/ كانون الأول 2019 على خلية أزمة حول زيت الزيتون، بحضور وزراء الفلاحة والمالية والتجارة، ورئيس اتحاد الفلاحين ونظيره في الصناعة والتجارة، والرئيس المدير العام لديوان الزيت، ورئيس لجنة الفلاحة، الأمر الذي عُدّ آنذاك خرقا للنظام الداخلي لمجلس نواب الشعب، والذي حدد صلاحيات رئيس المجلس ووظائفه في الفصول 48 - 52. كما جعل جلسات الحوار مع الحكومة، أو من يمثلها، وأعضاءها من صميم اختصاص اللجان البرلمانية، كما جاء ذلك في الفصل 81 الذي نصّ على أنه "يمكن للجان طلب الاستماع إلى ممثل عن رئاسة الجمهورية أو ممثل عن الحكومة أو أحد مسيّري المؤسسات والهيئات العمومية". والجلسة العامة هي وفق ما ورد في الفصل 147، أن "يخصّص المجلس جلسة للحوار مع أعضاء الحكومة حول التوجهات العامّة والسياسات القطاعية مرّة كلّ شهر، وكلّما دعت الحاجة، بطلب من المكتب أو بأغلبية أعضاء المجلس. تفتتح جلسات الحوار بعرض يقدّمه عضو الحكومة، ثمّ يتولّى الإجابة عن أسئلة الأعضاء تباعا وله حقّ طلب إمهاله لإعداد الردود".
وعلى الرغم من وضوح النصوص القانونية والدستورية المنظمة لعمل مجلس النواب ودور 
رئيسه، فإن السجالات والتجاذبات والصراعات السياسية والحزبية التي تحدثها كل مرّة مواقف وممارسات سياسية لرئيس المجلس تأبى أن تتوقف، وذلك على غرار زيارته تركيا والتقاء رئيسها يوما بعد سقوط حكومة الجملي، في اجتماع مغلق لم يحضره أي من أعضاء مكتب المجلس، وانجرّ عنه عقد جلسة عامة صاخبة، كانت بمثابة المحاكمة التي طاولت الغنوشي على خلفية الخلط بين دوره رئيسا للبرلمان وقيادته حركة النهضة.
وقد تجدّدت الصراعات والمناكفات السياسية، هذه المرّة، بمناسبة تفشي وباء كورونا، حيث دعا بلاغ (بيان) رئاسة الجمهورية الصادر يوم الاثنين، 16 مارس/ آذار الحالي، رئيس مجلس نواب الشعب إلى ضرورة "احترام كل سلطة لاختصاصاتها، بدون تداخل أو تضارب أو مضاربات سياسية"، وذلك على خلفية عقد رئيس البرلمان اجتماعا برؤساء الكتل البرلمانية وتنظيم ندوة صحافية، دعا فيها إلى إغلاق جميع الحدود البرية والبحرية والجوية للبلاد، فضلا عن دعوته رئيس الحكومة الحضور إلى البرلمان للاجتماع برؤساء الكتل وأعضاء مكتب المجلس، وهو الأمر الذي رفضه إلياس الفخفاخ، لعدم وجود نص دستوري أو قانوني يجبره على الحوار مع أي مؤسسة برلمانية، باستثناء الجلسة العامة.
وجاء موقف رئيس الجمهورية الحاد تجاه رئيس البرلمان الذي بلغ درجة وصمه بالمضاربة السياسية، بما يعني الربح والاستثمار السياسي في المأساة الناتجة عن انتشار كورونا محليا وعالميا، مستبطنا نزاع السلطة بين رأسي السلطة التنفيذية ونظيرتها التشريعية، ومستندا إلى قوة النصوص الدستورية والتشريعية التي تمنح كل صلاحيات التدخل في موضوع كورونا، وسُبل الحدّ من آثاره المدمّرة، للحكومة بدرجة أولى، ولرئيس الدولة في حال وجود حالة خطر داهم مهدد لكيان الوطن أو أمن البلاد أو استقلالها، وفق مقتضيات الفصل 80 من الدستور التونسي لسنة 2014، فيما يقتصر دور البرلمان على مساءلة الحكومة ورئيسها بشأن نجاعة عملها ومدى نجاحها وفشلها، وذلك أمام الجلسة العامة لمجلس نواب الشعب. إلا أن هذه النصوص التي توزع السلطات في تونس بطريقة جلية، غير قابلة للتأويل، تصلح فقط في معالجة الأوضاع العادية، وقد وضعها المشرّع لتحقيق توازن السلطات والحيلولة دون تغوّل إحداها والاستفراد بالحكم.