ضِدّ العناق

ضِدّ العناق

22 مارس 2020
+ الخط -
الشّرطيان الجالسان في ختم الجوازات ضحكا ملءَ فِيهما، من الفتاة التي قدّمت جوازها للختم بجانبي، لأنّها أجابت بعد سؤالها عما كانت تفعله في ماليزيا: سياحة. هي محظوظة، لأنها وجدت مكانا بين آخر الواصلين إلى المغرب من الخارج. كما حدث معي أيضًا، بعد أن قرّرت، في آخر لحظة، أن الوضع أسوأ مما يبدو، وأن الوجود في البلاد ضروري. 
حدث كل شيء بسرعة. في اليوم السّابق للسفر، اتصلتُ بوكالة أسفار، وسألت عن موعد آخر طائرة تعود إلى المغرب، قيل لي: غدًا. حسمتُ لحظتها تردّدي، ورميتُ أشيائي على عجل في الحقيبتين، وانتظرت مجيء الفجر، موعد الطّائرة "على قلقٍ كأن الريح تحتي" على قول المتنبي. ما أقلقني أكثر من غيره، إلى جانب المرور بالمطار، مع ما يحملهُ من احتمالات العدوى، هو: كيف سأقنع العائلة بالامتناع عن العناق والتقبيل؟ أنا الغائبة شهرًا ونصف الشهر؟ والقادمة عبر مطارات، وقطارات تحمل بشرا كثيرين، وإمكاناتِ العدوى.
بدأتُ التّمهيد للأمر، بمجرّد أن اقتنيت التذكرة، بجهد ثقيل الوزن لإقناع ابنتي بأنّني لن أعانقها 
عندما أراها. وكانت تردّ: لا لن أقدر. ثم أضفتُ: سأخضع لحجر صحي احتياطي. وعليك أن تذهبي إلى بيت العائلة. ردّت: لن أذهب إلى أي مكان. سنجلسُ معًا في الحَجر، ما يحدث معك سيحدث معي. رفضتُ، والحرص دافعي الوحيد.
كان الوضع مقلقًا في طوابير المطار. لا أحد يضع مسافةً بينك وبينه ولو بسنتميترات. جاهدت لأضع ربع متر أو نصفه بيني وبين الآخرين، بصعوبة. الجميع مستعجلٌ كالعادة في الطوابير ولا أحد منهم يأخذ الأمر بجدّية، على الرغم من أنّ معظمهم سافر بسبب الوباء. لذا وضعت كمّامة على فمي، وقفازين بلاستيكيين غيرتهما عدة مرات في ساعات السّفر، تحسّبًا لعطسة مفاجئة، من أحدهم في وجهي، فالأشياء التي نتجنّبها تحدث عادة، على الرغم من احتمالاتها الضئيلة. ولكن كان لي حظّ عجيب في الطائرة، فالمقاعد المجاورة كانت فارغة، مع أن الرّحلة كانت شبه مستوفية مقاعدها، فاستلقيت ونمتُ كأنّني أحلّق في سحابة.
عندما وصلت، توقّعت أن تكون الإجراءات الوقائية المتخذة في المطار شديدة الحرص. لكن كل ما حدث أنّه طُلب منا المرور داخل جهاز "سكانير" تجلس أمامه ممرّضة. ثم ملأنا استمارة صفراء نصرّح فيها بخُلوّنا من أعراض الوباء. ومن سيعترف بذلك، حتى لو كانت لديه؟ وحدها معلومة رقم الرّحلة والمقعد بدت مهمة، للعودة إليها لاحقًا، في حالة إصابة أحد الواصلين. عدا ذلك لا شيء يوحي في أكبر مطار في المغرب أنّ هناك وباء قادمًا.
الشّرطيان المكلّفان بختم الجوازات ضحكا على إجابة الفتاة القادمة من ماليزيا، وعلّقا: هل تستغرق السّياحة أربعة أشهر؟ كانت ملابس الفتاة الممتلئة، بالإضافة إلى اللون الأحمر، ضيّقة بشكل غير لائق. أزعجتني سخريتهما منها. ودُهشت لأنّها بقيت صامتة. فكرت في التدخّل لصالحها، لكنني كنت متعبة، بالإضافة إلى أنّها أزعجتني، عندما وقفت خلفي في الطابور، تتدافع وأنا أجاهد لحفظ مسافة معها. كما أنّ اختيار ملابسها يظهر أنها لا تهتم بما تخلّفه من أثر، وربما كان الأثر مقصودًا.
خرجتُ من المطار لأبدأ رحلةً أخرى داخل المغرب، في قطاريْن. حاولت أن أبتعد عن النّاس، 
ولكن تلك الحميمية التي يتميّز بها المغاربة لن تتغيّر بسهولة. كيف يحاول الجميع إقامة تواصل معك، من دون سبب. وتلك الحاجة الماسّة للاقتراب منك، والتمسّك بك، كأنّك بطانية في صباحٍ بارد، أصبَحَت أكثر إزعاجًا من أي وقت آخر. العجوز اللّطيفة التي جلست بجانبي في آخر محطةٍ في القطار، حاولت فتح حديث معي، بينما أحاول دفن رأسي في يوميات البولندي فيتولد غومبروفيتش، صاحب الاسم الغريب وصعب التذكّر. كانت تجد في كل إجابة مختصرة سؤالًا، وأنا أجيب بأقلّ الكلمات الممكنة، من دون أن أرفع رأسي عن الكتاب. أخيرًا فهِمَت وصمتت.
أخذتني شقيقتي من محطة القطار، بعد أن اتفقنا على عدم العناق، ولم نناقش الأمر سوى ثانيتين. للحظة، فكرتُ أن أجلس في الكرسي الخلفي. لكنّني عدتُ واعتبرت ذلك مبالغة، لذا جلستُ في الكرسي الأمامي، بما أنّني وضعت كل الاحتياطات. كما أنّ إمكانية حملنا وباء لأحبّتنا مخيفة وصعبة الإقناع معًا. في طريقنا، مررنا على بيت أمي. صعدتُ الدّرج، وتوقفت عند الباب بعيدًا عنها. حاولت كتم ضحكتي، واصطناع الجدّية المفترضة بوضع كهذا: رجاء يا أمي، لن أسلّم عليك. لكنّها حضنتني قائلة: قلبي لن يسمح بذلك، مهما كان السبب. أمّي مريضة، ووالدي عاد من السفر أيضًا منذ يومين، في آخر رحلة قادمة من فرنسا. حينها غامرتُ وخاطرت بسماع جملة ثقيلة الوزن من أمي، بالإلحاح عليها عبر الهاتف، أن تتجنّب الاقتراب منه، بل وأن ينعزل في طابقٍ آخر من البيت. ولم يفعلا بالتأكيد. الجيد في الأمر أنّها لم تقل شيئًا يدلّ على انزعاجها، مثل بقية المرّات التي حاولنا فيها تأليبها ضد والدي، حتى لو كان ذلك في مصلحتها. لم أجد والدي في البيت، علقّت أمي على تذمّرنا من عدم التزامه الاحتياط: أبوك لن يتحمّل الجلوس في البيت، ولا يمكنني فعل شيء حيال ذلك. كانت الجملة نفسها التي قالتها حين لمُتها لسماحها له بالسّفر، قالت لا يمكنني منعه، وهل أستطيع؟
كانت اللّقاءات مع العائلة مبتورة، وكنا نحاول ألّا نكون عاطفيين. فشلنا في ذلك. كنا نجلس 
بعيدين، بألم وقلب مفطور، ومحبّةٍ مكبوتة، ممنوعة من العناق. مررتُ بمحلٍّ، أشتري ما يلزمني قبل العودة إلى البيت. كانت الطّوابير نفسُها، وكان الخوف قويًا إلى حد يمكن شمّه من تردُّد الخطوات، وحيرة الأقدام، على الرغم من محاولة الوجوه الإنكار والتّظاهر باللامبالاة. نفدت المعقّمات وقناني الماء من المتجر. يُخزّن الناس، ولا يبقون في البيت. ينهزمون، لأنّهم يتوقعون الأسوأ، لكنّهم لا يفعلون شيئًا لمنعه، لأنّهم لا يظنون أن ذلك وحده كافيًا. هل يعقل أن يكون البقاء في البيت كافيًا لإيقاف زحف الموت؟
اتجهتُ إلى بيتي. وإلى اللّحظة الأصعب. نزلتُ من السيّارة، ووقفتُ بعيدا عن ابنتي متوسّلة: لا تقتربي رجاء، وبعثتُ قبلاتٍ بعيدة، وعناقًا افتراضيًا. جال في بالي فيديو ممرّضة صينية تعانق أولادها عن بعد، أيّام الوباء هناك. على مضضٍ قَبِلت ابنتي القرار، وقالت ونحن نتحدّث بسرعةٍ عن أشياء كثيرة: أشعر أنّنا لم نلتق، وكأنّنا نتحدّث عبر اتصال فيديو.
كانت مضحكةً محاولاتنا البقاء بعيدتين، وألّا نلمس الأشياء نفسها. اكتشفتُ أن حديثي اليومي معها عن كورونا منذ أسابيع قد جعلها تفوقني قلقًا من آثاره على من يهمّنا أمرهم، وأكثر حرصًا على احترام الإجراءات الوقائية. وهي من تدعمني في محاولة إقناع والدي في البقاء في البيت، من دون جدوى. وكان أكثر ما يزعجني التفكير فيه، وأنا في الطّريق إلى البيت، أن أجد الحديقة التي تطلّ عليها نوافذي، تضجُّ بالذين لا يهتمّون، وأنا التي جئت من آخر الدّنيا، لأكون قرب عائلتي في هذه الأوقات الصّعبة، من المحزن أن أرى عدد الذين لا يكترثون لما خلف الأفق من خطر. ولكن لحُسن الحظ لم تكن كذلك، سوى بعض الشباب "الصّايع" الذي لن يمنعه أيّ وباء عن الخروج.
وها نحن، أنا وابنتي، نحاول عدم الاقتراب كلّ يوم، وندعو أن تمرّ الأيام بسرعة، فقط لنتعانق.
596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
عائشة بلحاج

كاتبة وصحافية وشاعرة مغربية

عائشة بلحاج