ريشة على رأس أميركا

ريشة على رأس أميركا

22 مارس 2020
+ الخط -
هي أميركا التي يحق لها ما لا يحقّ لغيرها، وبائيًّا حتى، فمن يجرؤ على منع مواطن أميركي من دخول بلاده؟ ومن ذا يجازف بتسديد ماسح حراري إلى جبين مسافر أميركيّ في مطارات العالم كلها؟ 
أميركا خط أحمر، وعلى أصحاب الخطوط "ما دون الحمراء" أن يفكّروا مليًّا قبل اتخاذ قرار بإضافة أميركا إلى لائحة الدول المحظور السفر إليها، أو الممنوعة طائراتها من الهبوط في مطاراتهم، بصرف النظر عن تجاوز عدد المصابين بكورونا في ولاياتها حاجز الثلاثمائة، فليس مهمًّا الرقم هناك، حتى لو ضاهى الأرقام الصينية، بل المهمّ أن يصاب العالم خارج أميركا بالعمى الطوعي عن هذه الأرقام، على قاعدة أنه "ليس هناك عالم خارج أميركا أصلًا".
على الدوام، ثمّة من يضع أميركا جانبًا عند أي قرار. وهنا يقفز إلى ذهني مشهد مدرسي قديم، عندما كان يؤمر تلاميذ الصف بالانخراط في حملة نظافةٍ شاملة، فقد كان الأساتذة يسحبون بعض التلاميذ من أكمامهم جانبًا، برفق بالغ، ثم يختفي هؤلاء التلاميذ تمامًا عن "الحملة". والأمر ذاته ينطبق على أميركا اليوم، إذ سحبت جميع الدول التي اتخذت قرارات الحظر الوبائي أميركا جانبًا، على الرغم من أن أعداد المصابين فيها أضعاف دول أخرى شملها الحظر.. ألأن على رأسها ريشة فعلًا؟
الغريب في أمر الفرز هذا أنه يشمل دولًا يفترض أنها أقل خشية من أميركا. أفهم أن ترتعد دولنا نحن والعالم الثالث من مجرد التفكير في حظر أميركا، ولكن أن تشاطرنا الخوف دول أوروبية فهذا ما لم تهضمه غدة الرعب في جسدي، والمبرّر واحد: "ممنوع إغضاب أميركا"، أو "أميركا خارج الحسابات". أي أن على العالم أن يحل معضلاته من دون زجّ أميركا في معادلاته ونقاشاته، فلها من الحصانة ما يتجاوز دبلوماسيّيها إلى شعبها ذاته. لا يهم أنها غير محصّنة ضد كورونا، بل المهم أنها محصّنة من الحظر والتفتيش والمسح، محصّنة ضدّ العالم برمّته، والجواز الأميركي يخوّل حامله غزو العالم وتجاوز حواجزه. يحق لأميركا أن تدخل بجنودها وأوبئتها وصلافتها، حتى لو كان الدخول بمواطن واحد، لأن الواحد يمثّل الدولة كلها. وفي المقابل، يحظر على دول العالم أن تقاطع أميركا لأن "المقاطعة" حقّ أميركي بحت، فهي من يحق لها أن تقاطع، وإلا اعتبرت المقاطعة "وقاحة" من وقاحات العبيد.
لنعترف أن أسطورة "السوبرمان" الأميركي لم تعد خيالًا يمور في أذهان عباقرة "ديزني لاند"، بل تشعّبت الأسطورة لتشمل الكرة الأرضية، ولعلّ الخشية أن ثمّة خضوعًا عالميًّا مفروغًا منه، ومطويًّا ربما في اللاوعي الجمعي، يجعل من أميركا "استثناء" دائمًا حتى ولو كان العالم برمّته على مشارف هاويةٍ لا تحتمل الاستثناءات، فما الضير لو اختفى كورونا من العالم كله، وبقي متفشّيًا في أميركا وحدها؟ أليس "المريض الأميركي" مغايرًا لـ"المريض الإنكليزي" أو الآسيوي أو العالمي؟
لا جدال أن على رأس أميركا ريشة تميزها عن الآخرين. ذلك مفروغ منه، حتى وإن كانت ريشة من فروة رأس هنديّ أحمر من ضحايا أميركا سابقًا، أو من رأس ياباني محروق في هيروشيما، أو من جلد طفل عراقيّ ممزّق، فلها وحدها الحق في استثمار "إكسسوارات" ضحاياها لتذكّر العالم أن قائمة الضحايا لم تنته بعد، وأن كورونا هو "ألطف" مصير ينتظره قياسًا بالمصائر التي ترسمها، أو بالخطوط الحمراء التي تضعها لمن يتجرّأ يومًا على لمس "ريشتها".

دلالات

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.