في وداع عبد الرزاق اليحيى

في وداع عبد الرزاق اليحيى

21 مارس 2020
+ الخط -
محتفظًا بحيويته وابتسامته وذاكرته المتوقّدة، ودّعنا الصديق الفريق عبد الرزاق اليحيى (أبو أنس) عن 91 عامًا، قضى معظمها في ساحات النضال الفلسطيني والعربي قائدًا لجيش التحرير الفلسطيني، وضابطًا في الجيش السوري، وفي جيش الوحدة السورية المصرية، ومديرًا عامًا للدائرة السياسية في منظمة التحرير الفلسطينية، وعضوًا في اللجنة التنفيذية للمنظمة، ومندوبًا لها في عمّان التي ووري فيها الثرى، محمولًا على أكفّ رفاقه في جيش التحرير الفلسطيني، بعد أن أمضى أعوامه الأخيرة فيها، إثر تقاعده من السلطة الفلسطينية عام 2007. 
وُلد عبد الرزاق اليحيى في عام 1929، في قرية الطنطورة الساحلية، قضاء حيفا، والتي غادرها في إبريل/ نيسان 1948، بعد أن اجتاز شهادة "المترك" التي تُعادل الثانوية العامة الآن، تلبية لإعلان نشرته اللجان القومية في فلسطين، تطلب فيه من الشباب الذين يحملون هذه الشهادة التوجّه إلى سورية للالتحاق بالكلية العسكرية فيها. بعد مغادرته القرية بأسابيع، ارتكبت القوات الصهيونية مذبحة فيها، تناولتها الراحلة رضوى عاشور في روايتها "الطنطورية"، وما زال أهل فلسطين يحيون ذكرى هذه المجزرة على شاطئها في كل عام.
ترك أبو أنس مذكراته "بين العسكرية والسياسة .. ذكريات"، (مؤسسة شمل للاجئين والشتات الفلسطيني ومؤسسة الدراسات المقدسية، رام الله، 2006) وتناول فيها مسيرته العسكرية
 والسياسيّة الحافلة حتى إعلان اتفاق أوسلو. وتتميّز هذه المذكرات عن غيرها بصراحتها وصدقها، فصاحبها يسرد الحوادث كما هي، حتى لو حُسبت عليه بعض قصصها، وهو غير مألوف في مذكرات حديثة لقادة وسياسيين يقرأون التاريخ بأثر رجعي، متجاهلين حقيقة مواقفهم. وفي هذه السيرة الشخصية ما يفيد القارئ والمؤرخ والباحث عن جيش الإنقاذ في عام 1948، وتأسيس الجيش السوري، وحال الوحدة السورية - المصرية، وصولًا إلى تأسيس جيش التحرير الفلسطيني، ومحاولات سيطرة النظام السوري عليه، وحربَي يونيو/ حزيران 1967، وأكتوبر/ تشرين الأول 1973، وأحداث سبتمبر/ أيلول 1970، ومحاولات إعادة بناء العلاقات الأردنية – الفلسطينية، وغيرها الكثير ممّا هو ضروري ولازم لإعادة كتابة روايتنا حول تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية.
تم اختصار مدة التدريب في الكلية العسكرية إلى تسعة أشهر، ووُزع الخرّيجون مناصفة على وحدات جيش الإنقاذ والجيش السوري، فالتحق عبد الرزاق اليحيى بفوج اليرموك في جيش الإنقاذ الذي تمركز على الحدود اللبنانية – الفلسطينية، في منطقة بنت جبيل. في هذا الفوج، التقى اليحيى بقائده المقدّم وصفي التل الذي أصبح لاحقًا رئيسًا لوزراء الأردن. ويتحدث في مذكراته عن محاولات التل لتنفيذ انقلاب في لبنان وفي سورية، باستخدام فوج اليرموك، مستعينًا، بحسب تقدير اليحيى، بالحزب القومي السوري، على أن يقوم بتجنيد الشباب الفلسطيني اللاجئ لتحرير فلسطين، لكنّ قرارًا بنقل الفوج إلى سورية أجهض الانقلاب في لبنان. وفي سورية، حاول التل المرور عبر دمشق لتنفيذ انقلابه، لكنّ تعليمات مشدّدة منعته من ذلك، وطلبت منه التوجه ليلًا إلى الجولان. وفي الطريق، شاهدوا مصفحات سورية متجهة من الجبهة إلى دمشق، وكانت هذه مصفحات حسني الزعيم التي نفّذت أول انقلاب في تاريخ سورية. انتهت أحلام وصفي التل الانقلابية باعتقاله وزجّه في السجن أسابيع عدة، قبل أن يُطلَق سراحه، ويعود إلى الأردن ليلتقي من جديد باليحيى، رفيق سلاحه القديم، بعد مجيء اللجنة العربية لوقف إطلاق النار بين الجيش الأردني والمقاومة الفلسطينية في سبتمبر/ أيلول عام 1970.
تم حلّ جيش الإنقاذ، وأُلحق ضبّاط الدورة الفلسطينية بالجيش السوري، وتم منحهم الجنسية السورية. أصبح عبد الرزاق ضابطًا في الجيش السوري، وخبيرًا في الأسلحة الثقيلة، وهو يسجل شهادته عن تزوير الانتخابات، ويرفض الأوامر بتفريق تظاهرات جامعة دمشق بالقوة، كما يرفص تعليمات قصف قرى جبل العرب التي انتفضت ضدّ حكم أديب الشيشكلي، وينجو من المحاكمة العسكرية، نظرًا إلى تغيّر الحكم. ولكنّ الحدث الأبرز في حياته في الجيش السوري اعتقاله في عهد حكومة الوحدة ثمانية أشهر، تعرّض فيها لصنوف التعذيب المختلفة؛ من جلد، وشبح، وتعذيب بالكهرباء، وجلوس على الخازوق، وحاول خلالها الانتحار، للتخلّص من هذا التعذيب المستمر ليلًا ونهارًا. يعزو اليحيى سبب الاعتقال إلى تهمة باطلة، نتيجة وشاية ضباط قدموا للتفتيش على الوحدة النموذجية التي يقودها، فوجدوه مستعدًّا لكل الاحتمالات، معدًا الخطط اللازمة لمواجهتها، فاعتبروه بذلك يُعدّ وحدته لتنفيذ انقلاب عسكري. بعد فترة الاعتقال، نُفي إلى الإسكندرية التي عاش فيها ظروفًا صعبة، قبل أن يقاسمه أحد أبناء دورته العسكرية راتبه، ثم عاد إلى دمشق بعد الانفصال، متألّمًا على ما آلت إليه الوحدة التي كان مؤيدًا لها، وأحد ضحاياها في الوقت ذاته.
تأسست منظمة التحرير الفلسطينية في 1964، فالتحق أبو أنس بجيش التحرير الفلسطيني، 
وأصبح قائدًا لقوات حطين الموجودة في سورية خلال حرب يونيو/ حزيران 1967، راويًا ذكرياته عن الحرب، ولقاءاته بوزير الدفاع آنذاك، حافظ الأسد، وحمّله رسالة منه إلى الملك حسين وعبد المنعم رياض، ومشاهداته كيفية انسحاب الجيش السوري من الجولان، وآراءه في الخطط الموضوعة للدفاع عنه.
ويسهب الفريق عبد الرزاق اليحيى في الحديث عن محاولاته الحفاظ على استقلال جيش التحرير في مواجهة محاولات النظام السوري الهيمنة عليه، ويروي كيف احتجزه ضباط محسوبون على أجهزة النظام، بعد محاولته تحقيق وحدة الفصائل الفلسطينية مع جيش التحرير، وبدأ ذلك بالاتفاق مع حركة فتح، بوصفها نواة لهذه الوحدة التي عارضها النظام السوري، وانتهت باحتجازه قيد الإقامة الجبرية في دمشق أربعة أشهر، انتهت باستقالته من قيادة الجيش، وتعيينه مديرًا عامًا للدائرة السياسية في منظمة التحرير.
ويستحق حديث عبد الرزاق اليحيى عن تجربة المقاومة الفلسطينية في الأردن، ونقده لها، الوقوف عنده طويلًا، إذ كانت له وجهة نظر عسكرية مخالفة لما هو سائد، من حيث طبيعة الوجود والانتشار، وشكل الفعل العسكري. ويبدو لافتًا موقفه في أحداث أيلول، حين دعا إلى تجنّب الاشتباك مع الجيش الأردني، مقدّرًا بأنها مواجهة خاسرة ولا لزوم لها، لم يؤيّده سوى عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير عبد الخالق يغمور ورئيسها السابق، يحيى حمودة، وضاع صوتهم وسط ضجيج المطالبين بإسقاط النظام في الأردن وإعلان العصيان المدني. ويؤكّد اليحيى أنه التزم قرار القيادة السياسية، على الرغم من عدم رضاه عنه، فوضع خطة دفاعية تستهدف عرقلة تقدّم الجيش الأردني، بانتظار الوصول إلى حلّ سياسي. ويكشف، في مذكراته، كيف فقد الاتصال بقواته طوال الأيام الأولى للقتال، وهو يتنقل من بيت إلى آخر، إلى أن تمكّن من الوصول إلى منزل الملحق العسكري المصري الذي أبلغه أنّ البحث عنه جارٍ كي يذهب لتمثيل الجانب الفلسطيني في تنفيذ وقف إطلاق النار.
في لقائي الأخير معه، هنّأته على هذه الصراحة غير المعتادة في كتب المذكرات، وتحدّثنا عن الجزء الذي لم يُدوّن فيها، ويتعلّق بعمله وزيرًا للداخلية في السلطة الفلسطينية، والمباحثات الأمنية التي ترأس هو الجانب الفلسطيني في بعض فتراتها، فوعد أنه منكبّ على ذلك، وأنّ لديه الكثير ليقوله، مدعمًا بالوثائق والمستندات وملاحظاته النقدية الوافرة، ولعله يكون قد أنجز ما وعد.
34BA9C91-C50D-4ACE-9519-38F0E79A3443
معين الطاهر

كاتب وباحث فلسطيني، عضو سابق في المجلس الثوري لحركة فتح والمجلس العسكري الأعلى للثورة الفلسطينية، ساهم في تأسيس الكتيبة الطلابية منتصف السبعينات، قائد للقوات اللبنانية الفلسطينية المشتركة في حرب 1978 منطقة بنت جبيل مارون الراس، وفي النبطية الشقيف 1982.