تحوُّلات كورونا

تحوُّلات كورونا

19 مارس 2020
+ الخط -
لا حديث اليوم إلا عن وباء كورونا، ولا تَقَاسُم في الفضاءات الافتراضية المتطايرة إلا عن الجائحة التي ملأت الدنيا وشغلت الناس. وأغرب ما في الأمر أن كورونا يصنع الحدث، ويساهم في خلخلة حياة الناس وتغييرها، حيث لم يعد هناك ما يستحق الحديث والفرجة والتشارك بالتبادل، خارج معطيات ومتطلبات الجائحة التي تكاد تعم اليوم كل القارات، وتنتشر في مجتمعاتٍ كثيرة، مصحوبة بجداول من الأرقام التي لا تعكس طبيعة الهلع الذي شَلَّ المجتمعات البشرية، وعَمَّم وسطها حالة من الخوف غير مألوفة. 
ومنذ إعلان منظمة الصحة العالمية تحوُّل كورونا إلى وباء، أي إلى جائحة متحرّكة وعابرة للحدود والأمكنة، انخرط العالم في مجموعةٍ من الإجراءات الوقائية، للحد من اتساع عمليات انتشاره. وهكذا أعلنت معظم الدول وقف الأنشطة الرياضية والثقافية، كما أعلنت إغلاق المدارس والجامعات والمعامل، وإلغاء الحفلات والجنائز والأعراس، وكذا إغلاق المقاهي والمطاعم والمراقص والأندية، إضافة إلى توقيف الطيران وتعطيل حركة الموانئ وإغلاق الحدود البرية. وقد شكلت هذه الإجراءات نوعاً من التجميد الإرادي لحركة التجارة والسياحة والإنتاج، الأمر الذي ستكون له انعكاساتٌ قويةٌ على مجالات المال والأعمال، وحركة التبادل الاقتصادي العالمي.
تَبْرُز مظاهر هلع الناس في الأسواق، حيث يلجأ الجميع إلى الأسواق، مفترضاً أن الإجراءات الوقائية التي أعلنتها الحكومات تخفي أموراً أخرى. كما يبرز الهلع في الحالة التي أصبحت عليها مدنٌ في إيطاليا وفرنسا وإسبانيا وفي المغرب وتونس .. إلخ. حيث تحوَّلت مدن كثيرة إلى فضاءات مهجورة، اختفى السكان في البيوت، متناسين أن الوباء الشبح يتطاير ويتحول ويسقط ويتجدَّد، وأنه يختفي ثم يعود بمسمياتٍ أخرى ومواصفات أخرى. ولا يدري أحد المردودية المباشرة لمثل هذه الإجراءات، أما المختصون في علوم الأوبئة، فيتحدّثون عن التحولات التي تصاحب تطور كوفيد 19، حيث نتعلم أن هذا الفيروس انتقل من الطيور إلى البشر، ليَستقرَّ في أجهزة تَنَفُّسِهِم، متخذاً أشكالاً جديدة منحته القدرة على مزيد من الانتشار. وهو لا يكتفي في تصوُّرنا بهذا، إنه في تحوُّلِه يساهم أيضاً في تحويل المجتمعات التي ينتشر فيها. وهكذا، ومنذ أصبح الوباء موضوع الساعة في مجتمعنا، دفعنا إلى الانخراط في حياة أخرى، حيث لم يعد هناك وقت لدينا للتفكير في مآلات الصراع العربي الإسرائيلي، فتوقفت المظاهرات المندّدة بصفقة القرن، وتعثرت الاحتجاجات التي عرفتها بعض البلدان العربية منذ أشهر. مُنعت التجمعات ومُنع التجمهر خوفاً من تفشِّي انتشار الوباء. لم يعد هناك أحد يسأل عن مصير الشعوب، السوري والليبي واليمني، وهي شعوب قهرتها كورونا الاستبداد، وما يرتبط به من أوبئة سياسية واجتماعية أخرى، لا تُبْقِي ولا تَذر.
تواصل الجائحة اكتساحها المجتمعات، كما تواصل ملء فضاءات التواصل الاجتماعي، ووسط 
فضاءاتٍ فارغة في المدن، وأجواء نفسيةٍ مشحونةٍ بمواجهة تحدّيات الفيروس، ومحاولة القبض عليه وإدخاله المختبرات، بهدف اكتشاف ما يساعد على إخفائه. وسط كل هذه الأجواء المثقلة بالخوف وبالحكايات والأرقام والحياة والموت، يمكن القول إن لا أحد يعرف اليوم حقيقة ما جرى ويجري، والمؤكد أن الجائحة عَمَّت، وزادها سيل الأخبار والحكايات الصحيحة والمفبركة غموضاً، ومن دون ادِّعاء امتلاك أي أحد القدرة على التمييز بين الصحيح والمتخيل والمُوَظَّف، في الحكايات والتقارير المواكبة للحدث، نجد أنفسنا في النهاية أمام جائحة تمتلك اليوم أبعاداً مركَّبة.
تتابع مختبرات عمليات البحث عن اللقاح المناسب والأدوية المساعِدة على التخلص من كورونا، وتبيَّن أن حركة الفيروس تفوق قدرات مراكز البحث العالمية التي لم تستطع محاصرته ووقف حركته، على الرغم من ملاحقتها له منذ أشهر، مثلما أن عدد المصابين بالفيروس يفوق عدد أسِرَّة المستشفيات في البلدان المتخلِّفة.
ومن الأمور الغريبة في مجتمعنا أن الاختلاط الذي لحِق موضوع الجائحة في الفضاءات الرقمية زاده تعقيداً، حيث عملت كثير من وسائط التواصل الاجتماعي على اعتباره بداية نهاية العالم، وربطته جهاتٌ أخرى بالعقاب الإلهي، حيث تصدَّر فقهاء الظلام منصات بعض الوسائط الافتراضية، ليحولوا كورونا إلى فزّاعة فعلية أدخلت مجتمعاتنا في حالةٍ من الخوف والترقب. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل إن وسائط التواصل الاجتماعي اختارت، إلى جانب كل ما ذكر، تجاوُز سردية العقاب الإلهي واقتراب الساعة، لتعلن أن ما وقع في الصين وإيران، ثم انتشر في مناطق عديدة، يندرج ضمن مؤامراتٍ توظف الحروب البيولوجية لمواجهة الخصوم، وإلحاق الأضرار البالغة بهم، وهي أضرارٌ تفوق، في كثير من أوجُهِها، الحروب التقليدية، فأصبحت سردية المؤامرة وسردية نهاية العالم تصنع من واقعة الوباء حكايات أخرى معزوفاتٍ أخرى لمزيد من نشر الهلع والخوف، حيث يتم التمهيد لإطلاق أوبئة أخرى وحكايات أخرى في عالمٍ لا يتوقف عن الصراع.
C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".