مناعة القطيع .. العِلم والأيديولوجيا

مناعة القطيع .. العِلم والأيديولوجيا

18 مارس 2020
+ الخط -
عندما حذّرت المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، من أن ما بين 60% و70% من السكان في بلادها قد يصابون بفيروس كورونا، كانت بذلك تحاول إحداث صدمة تُلزم فيها ناسها بفرض الحجر الصحي على أنفسهم. أما حين قال رئيس الحكومة البريطانية، بوريس جونسون، إن "عائلات كثيرة، كثيرة جداً، ستفقد أحباءها قبل أن يحين وقتهم"، فإنما كان بهذا يمهّد لإعلان كبير المستشارين العلميين للحكومة، السير باتريك فالانس، نية المملكة التفرّد (والتحقت بها هولندا أخيراً) عن كل العالم بطريقة مواجهة فيروس كورونا، لا بمنع التجمعات ولا بإغلاق الحدود، بل عبر لعبة قمار موصوفة، تتمثل بتحويل سكان بريطانيا (حوالي 70 مليوناً) إلى فئران تجارب لفرضية علمية قديمة، قلما تجرأ مسؤول سياسي و"بشّر" مواطنيه بأنه سيطبقها عليهم: مناعة القطيع. الفرضية العلمية تلك سهلة: كلما توسعت دائرة انتشار الوباء تصبح هناك مناعة جماعية أوسع لأجيال، على الرغم من أن ثمن ذلك سيكون خسائر هائلة في الأرواح، هي أرواح الأقل قدرة على الصمود، من طاعنين في السن أو حاملي أمراض مزمنة. هكذا، يريد العقل الطبي المفكر داخل الحكومة البريطانية أن يصاب 60% من السكان بالوباء في موجته الحالية، لكي يطوّر الجسم مناعته الخاصة، ولكي لا تعود العدوى بوتيرة أقوى في زيارتها المقبلة في الخريف والشتاء المقبلين، هذا إن خفّت حدتها الفعلية أصلاً، بما أن لا كلام علمياً يؤكد انحسار الفيروس مع ارتفاع درجات الحرارة أو حلول فصلي الربيع ثم الصيف، إلا في خرافات دونالد ترامب التي دحضها العلم للأسف. 
قد تكون الفرضية العلمية (مناعة القطيع) صحيحة، لكن المصيبة أنها قد لا تصح مع كورونا، وهو ما كرّره عشرات الأطباء البريطانيين في عرائض نشروها في الصحف البريطانية منذ أبلغنا جونسون ومستشاروه بنواياهم. يقولون إن الجسم لا يتعامل مع كل الأوبئة بالطريقة نفسها لكي يطوّر مناعته الخاصة الجماعية ضدها على السواء، ولا الفيروسات تتشابه في مفاعيلها على الأجسام، لكي تسمح لها بتطوير مناعتها، وإلا لكانت الأجساد حصّنت نفسها ضد كل الأمراض المزمنة.
دع لأهل العلم وحدهم الحيز الطبي الصرف في الموضوع، والذي يترك الحسم في صحّة الفرضية أو خطئها للتجربة وحدها. ما يصعب تركه جانباً هو الجانب الأيديولوجي، السياسي ــ الاقتصادي في نوايا الحكومة البريطانية بترك على الأقل مليون شخص يموتون، من أجل أن يعيش الآخرون. من سيموتون سيكونون طبعاً من العجزة الذين يُنهِكون الميزانية البريطانية المخصصة لـ"خدمة الصحة العامة" (NHS) التي يفعل المحافظون كل ما في وسعهم منذ مارغريت تاتشر لبيعها إلى القطاع الخاص على غرار القطاعات الأخرى التي لم تعد الدولة تملكها. وفي هذه الخلفية من خطة الحكومة شيء من الفاشية التي تحبّذ التضحية بأضعف عناصر المجتمع (المرضى والمعوّقون والطاعنون في السن) بدل إيلائهم الأولوية في الرعاية. لكن حتى لو وضعنا جانباً الخلفية الأيديولوجية، السياسية ــ الاقتصادية تلك، على اعتبار أن موت كثيرين في كارثة كورونا الحالي حتمي، وأمر لا فائدة من إخفائه أو تجاهله في مناقشة مغامرة الحكومة البريطانية في مواجهة الوباء، فإنّ ما يستحيل تجاهله، في هذا السياق، أن بريطانيا من بين أسوأ الدول الأوروبية، والغربية عموماً، في مستوى الخدمات الصحية، في الموازنة المرصودة لها وفي عدد أسرّة المستشفيات وفي يُسر الوصول إلى طبيب وسرعة حجز موعد...
أكثر من يعي سوء أحوال القطاع الصحي في بريطانيا هي الحكومة نفسها قبل أي طرف آخر. هذا يعني أن خطة "مناعة القطيع" تفترض "التضحية" بعدد أكبر بكثير من المليون المفترضين في حال إصابة ما بين 60% و70% من سكان المملكة مثلما يريد حكّامها، لأن قدرة المستشفيات على تقديم العلاج ستكون ضئيلة. يكفي أن نعرف أن عدد الأسرّة المخصصة للحالات الطارئة جداً في بريطانيا هو 6.6 أسرّة لكل مائة ألف شخص. بينما لدى إيطاليا ما نسبته 12.5 سريراً للحالات الطارئة جداً لكل مائة ألف. وعند إلقاء نظرة على حال إيطاليا اليوم لجهة عدد المتوفين بسبب المرض والمصابين به، بضُعف ما تملكه بريطانيا من قدرات صحية، والوضع المماثل الذي ينتظر أن تعيشه المملكة في غضون أسابيع وجيزة (على حد اعتراف بوريس جونسون يوم الاثنين الماضي)، يصبح سهلاً توقع حجم الكارثة المتوقعة من لعبة قمار أيديولوجية ـ علمية.
أرنست خوري
أرنست خوري
أرنست خوري
مدير تحرير صحيفة "العربي الجديد".
أرنست خوري