لا وقت للموت في زمن كورونا

لا وقت للموت في زمن كورونا

18 مارس 2020
+ الخط -
لا صوت يعلو فوق صوت فيروس كورونا، هذه هي صورة الحال الماثل أمامنا. خفتت أصوات ملوك العالم ورؤسائه ووزرائه وكل أصحاب الشأن فيه، بل أصبح هؤلاء رهائن لدى كورونا. يلاحقهم، يقضّ مضاجعهم، يهدّدهم حتى في حيواتهم الخاصة، وهم لا يملكون سوى اعتناق الذعر والهلع، واجتراح الصبر على ما هم فيه، وعلى ما يحتمل أن يُحدثه هذا الوحش من نوائب تفوق ما اختبروه وعايشوه على مدى الزمن الطويل. لم يكن لديهم ما يقدّمونه لمواطنيهم سوى مشاعر التعاطف وإعلانات الحرب على عدو غير منظور، لكنه موجود في أيما مكان من كوكب الأرض الذي قدّر لنا أن نحيا فيه. 
ليس السياسيون ورجال السلطة وحدهم من داهمهم كورونا. الكتاب والروائيون والشعراء هم أيضا لم يتوقعوا "أم كوارث" كالتي يواجهونها اليوم، قرأوا عما يمكن أن يعدّونه كارثة أو مصيبة أو أزمة حدثت في زمن غابر، وربما عاشوا بعضها في زمن مماثل، وتعايشوا وتعاملوا معها وكتبوا عنها، لكنهم يعيشون اليوم حدثا مختلفا تماما عن كل تلك التسميات التي تنطبق كلها على كورونا وأكثر، ولذلك باتوا حيارى في ما يمكن أن يقولوه أو يكتبوه شعرا أو نثرا، لائذين بالصمت، لاهثين وراء ما يقوله خبراء الفيروسات والأطباء، ليكيفوا وفقه ما ينظم حياتهم ويحميها، ومكتفين بتغريدةٍ من بضعة أسطر، أشبه بتعويذة خوفٍ من قدر شرير لا مردّ له، ينثرونها على "فيسبوك" أو "تويتر"، في انتظار أن يلهمهم الحدث الجلل كتابة رواية أو معلقة شعرية، لكن بعد زوال الخطر الذي قد يمتد ويتسع على نحو غير معروف، وهو ما يقول به عديد ممن يعرفون خبايا الفيروسات وخفاياها!
المواطنون العاديون الذين اعتادوا نزول الكوارث على رؤوسهم على غير ميعاد وجدوا كارثة كورونا هذه المرة الأقوى والأكثر شراسة وهمجية مما عرفوه وألفوه، وقد هرعوا إلى المتاجر والدكاكين ومراكز التسوق والصيدليات، يبحثون عن المعقمات والأدوية والأغذية، وكل ما يفيدهم في التقوقع اللاإرادي الذي أجبرتهم الأقدار عليه.
وفي ساعات ذعر وقلق، أدركوا أنهم في مواجهة وحش فائق القدرة على الفتك بهم إذا ما تمكّن
 منهم، وكان أن استجد لديهم حافز السعي إلى الحفاظ على حيواتهم، وأن يكرّسوا كل الوقت لإدامة الحياة، ولا وقت للموت، والعبارة الأخيرة عنوان أحدث أفلام جيمس بوند الذي قد يكون من بين أفلام سينمائية أخرى ارتبطت، على نحو ما، بظهور وحش كورونا الشرير الذي كان شؤما عليه، إذ سبب انتشاره تأجيل عرضه الذي كان مقرّرا له الأسبوع الأول من إبريل/ نيسان المقبل، ويظهر الفيلم مخلوقا شريرا مزودا بتكنولوجيا متطوّرة يصطدم به بوند الساعي لإنقاذ العالم من الكوارث، لكن المخلوق الشرير يقطع عليه الطريق، ويجعله ضعيفا مهلهلا لا يقوى على ردعه. وتحكي أغنية الفيلم التي ظهرت في الإعلان الترويجي ما يدور في ذهن إنسان اليوم الذي يطبق عليه كورونا: كان علي أن أعرف أنني سوف أغادر العالم يوما، وقد سقطت من أجل كذبة.. لكن لن تراني أبكي أبدا حيث لا وقت للموت.
إذن.. لا وقت للموت، الوقت كله للحياة، هذه هي الحكمة التي أدركها الإيطاليون الذين داهمهم الوحش الشرير، وقطع عليهم حياتهم الحلوة، فهم وإن انصاعوا له عندما أجبروا على التزام منازلهم قسرا، ابتكروا ما يجدّد حياتهم، ويحيي آمالهم في مستقبل أحلى، قفزوا إلى الشرفات يعزفون الموسيقى ويرقصون ويغنون النشيد الوطني، إذ لا وقت للموت.. الوقت كله للحياة، الصين أيضا التي ولد فيها الفيروس الشرير أرخت أعصابها، واستسلمت لمشاعر الارتياح والغبطة، تغمرها الثقة في أنها قطعت الشوط الأكبر في محاربة كورونا. صحيح أنه أصاب أكثر من ثمانين ألفا من أبنائها، وقتل أربعة آلاف آخرين، لكن يكفيها أنها واجهته بضراوة ومهارة، وعرفت كيف ترد عليه، ووقف رئيسها شي جين بينغ في ووهان، المدينة التي شهدت ولادة كورونا، ليبلغ العالم أن بلاده "سوف تواصل السير لبناء مستقبل مشترك لكل البشر".
هكذا يقف العالم في مواجهة "أم الكوارث" التي توشك أن تُطبق عليه، لكن وقفته تحمل إصرارا وعزيمة على مقاومة الشر، وعلى النهوض من جديد، ومعاودة اجتراح الفرح، إذ ينبغي أن يكون الوقت كله للحياة، ولا وقت للموت.
583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"