بوتين باقٍ في السلطة إلى الأبد

بوتين باقٍ في السلطة إلى الأبد

16 مارس 2020
+ الخط -
تحاول حكومات دول العالم بذل أقصى الجهود لمواجهة أزمة تفشي فيروس كورونا المستجد (كوفيد 19)، والحدّ من تبعاتها الإنسانية والاقتصادية والاجتماعية، فيما ينشغل الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين (67 عاما)، بتأبيد حكمه بلاده، بإقرار تعديلات دستورية، تتيح له الاستمرار في الرئاسة دورتين إضافيتين، بعد انتهاء فترة رئاسته الحالية في العام 2024، بينما لم يكترث بتردّي الأوضاع المعيشية للروس، نظراً لتأثرها بالهبوط الحاد الذي أصاب سعر صرف الروبل أمام العملات الأجنبية، حيث هبط سعر صرف الروبل إلى 75 روبلاً للدولار الواحد، بسبب انهيار أسعار النفط في الأسواق العالمية، نتيجة نشوب حرب نفطية بين السعودية وروسيا، أفضت إلى انخفاض أسعار النفط إلى ما دون 30 دولاراً للبرميل، بعد إغراق سوق النفط العالمية من السعودية التي ردّت بهذه الخطوة على رفض روسيا الالتزام باتفاق خفض كميات النفط في الأسواق، بهدف ضبط استقرار الأسعار.
وعلى الرغم من أن التعديلات الدستورية التي أقرّها مجلس الدوما الروسي حدّدت مدة الرئاسة القصوى بفترتين متتاليتين، إلا أنها أفرغت هذا التحديد من مضمونه، من خلال منح بوتين الحق في الترشح لولايتين رئاسيتين إضافيتين، كل منهما ست سنوات، لأنها تصفّر عدد ولاياته السابقة والحالية، وبالتالي تمهّد الطريق أمامه بما يمكّنه من الاستمرار في حكم روسيا مدى 
الحياة، نظراً لأنه بات بإمكانه الاستمرار في الرئاسة إلى العام 2036.
وليس مصادفة أن يحضر بوتين جلسة تصويت "الدوما" على التعديلات الدستورية، لكنه حاول أن يخفي سعيه إلى إقرارها بقبوله المشروط بها بعد أن أقرّتها (شكليا) المحكمة الدستورية، وصوّت الروس عليها في الاستفتاء المقرر إجراؤه في 22 إبريل/ نيسان المقبل؟ لذلك كان الهدف من هذه التعديلات الدستورية تضمينها تصفير الولايات الرئاسية للرئيس الحالي، أي بوتين، حيث تنص الفقرة 3.1 من المادة 81 من الدستور المعدّل على إعفاء الرئيس الروسي الذي يشغل منصبه وقت دخول التعديلات الدستورية حيز التنفيذ، من احتساب ولاياته السابقة ضمن الحد الأقصى للولايات الرئاسية، الأمر الذي يفقد الدستور معناه تماماً، ويطرح التساؤل عمّا إذا كان ثمّة جدوى من وجود دستور في روسيا تحت حكم بوتين.
وجاء إقرار التعديلات الدستورية في ظل ضربة حادّة أصابت الاقتصاد الروسي بسبب تراجع أسعار النفط، إذ هوت البورصة، وسقط سعر صرف الروبل إلى أدنى مستوياته منذ مطلع 2016، الأمر الذي دفع ساسة الكرملين إلى السعي إلى احتواء الأزمة من خلال ضخ البنك المركزي العملات الأجنبية، وعقدهم اجتماعاتٍ عاجلة مع شركات النفط.
وتعكس التعديلات عجز بوتين عن إشادة منظومة سلطةٍ لا تعتمد على شخصيته، كونه لا يثق 
في الدولة الروسية، ولا بأي أحد آخر سوى نفسه، على الرغم من تبجّحه بروسيا وعظمة روسيا والدولة الروسية، فهو لا يقيم لهما وزناً إلا من خلال شخصه. ولذلك تكشف التعديلات الدستورية سعي بوتين الحثيث إلى الاستمرار في القبض على مفاصل الحكم، والبقاء فيه مهما كان الوضع في روسيا. وهو أمر بدأه بوتين منذ هندس لعبة تبادل الأدوار على كرسي الرئاسة الروسية مع رئيس الوزراء السابق، ديمتري ميدفيديف، حتى بات في وسعه البقاء في قمة السلطة حتى عام 2024. ولم يكتف بذلك، بل يريد تأبيد سلطته، مستنداً إلى براثن شعبويته الممزوجة ببراثن شوفينية قومية روسية، بعد أن ركبه الهوس الشوفيني، وبلغ حداً جعله قيصراً مهووساً بنزعتي القوة والعظمة، وادّعاء إعادة بناء مجد روسيا الجديد، المشدود إلى قيصرية غابرة، والقائمة على استدعاء الماضي وأمجاده المندثرة، خصوصا بعد أن سادت مشاعر الإحباط لدى الروس بعد السقوط المدوي للنموذج السوفييتي، وسيادة مظاهر انتصار النموذج الغربي.
والواقع أن الدساتير هي مجرّد أوراق في البلدان ذات الأنظمة السياسية غير الديمقراطية، على شاكلة النظام البوتيني وأشباهه، لا تُحترم، وتُنتهك عندما تقتضي مصلحة الحاكم، وتُغيّر مراراً بما يناسب مقاس عمر الحاكم وأهوائه، ولعلنا نتذكّر كيف غيّر الدستور السوري في خمس 
دقائق، كي يصبح على مقاس عمر بشار الأسد، بهدف توريثه الحكم في سورية بعد وفاة أبيه عام 2000.
وقد دأب النظام البوتيني على تمرير تعديلات دستورية وتهويمات انتخابية واستفتاءات، حافظ عليها منذ وصول بوتين إلى السلطة عام 2000، وقام بتوزيع الأدوار على جميع الأحزاب والنقابات والجمعيات، وفرض عليهم آلياتٍ للحفاط عليها، بما يعني جعل جموع الشعب فئات طيّعة، وأشرك أحزابا معارضة في هوامش النظام، على أن تعارض من داخل النظام نفسه. أما أحزاب وحركات المعارضة للنظام، فقد لاقت الأمرّين، وراحت تكيف نفسها على جملة العوائق والموانع التي وضعها بوجه تحرّكاتها وعملها، لكنها لم تتمكّن من الخروج من الدائرة التي وضعها النظام البوتيني بغرض تهميشها واستبعادها.
من حق المعارضين الروس اعتبار التعديلات الدستورية تفقد الدستور معناه، وأن تمريرها تحت يافطة تعزيز صلاحيات السلطات التشريعية والمحلية مجرّد خدعة، من أجل تعزيز السلطة المركزية للرئيس بوتين، وضمان استمراره في الحكم، كي لا يتكهن الروس بمن سيكون الرئيس المقبل، ولا ينشغلوا بالبحث عنه، في وقت يتطلب منهم تبديل الروبلات التي يملكونها، وليس تبديل الدستور، وأن يستسلموا لألاعيب بوتين السلطوية التي تحاول تطمينهم بأن بلادهم مستعدة لحرب أسعار نفط طويلة مع السعودية، وأن ارتدادات أزمة تفشي وباء كورونا وانخفاض أسعار النفط لن تؤثر على مخططات حكام الكرملين الذين لا يعنيهم سوى بامتيازاتهم ومداخيلهم، وربما سيتخذون إجراءات لدعم الروبل، حتى يمرّ موعد التصويت الشعبي على التعديلات الدستورية الشهر المقبل، ويتحقق تكريس سيطرة بوتين، بوصفه الرجل القوي المعتد بنفسه الذي لا يشبهه أحد، ولا يتردّد في سعيه إلى تحقيق مقولة: بوتين إلى الأبد.
5BB650EA-E08F-4F79-8739-D0B95F96F3E1
عمر كوش

كاتب وباحث سوري، من مؤلفاته "أقلمة المفاهيم: تحولات المفهوم في ارتحاله"، "الامبراطورية الجديدة: تغاير المفاهيم واختلاف الحقوق".