قول في الدستور ومسألة الهوية الجزائرية

قول في الدستور ومسألة الهوية الجزائرية

15 مارس 2020
+ الخط -
في إطار عملية التّعديل الدّستوري التي دخلت مراحلها الأخيرة في الجزائر، بإعلان أحد المسؤولين في الرئاسة أنّ المسودة ستوزع على النّخبة السياسية والمجتمع المدني، في غضون الأسبوع المقبل، للإثراء قبل العرض على الاستفتاء في الخريف، ينبغي إيلاء مسألة الهوية نوعاً من التّفصيل، بسبب أنّها من المسائل المثارة والخلافية بين فئات المجتمع المختلفة، خصوصاً أنها ارتبطت بمسألة رفع متظاهرين الرّاية الهوياتية الأمازيغية، ما ترتّب عن ذلك من جدالاتٍ وصلت إلى حد التراشق بعبارات نابية، بل عنصرية، استدعت الحاجة لقانون ضدّ الكراهية، دعا إلى إقراره الرئيس عبد المجيد تبّون.
بما أنّ المسألة الهوياتية التي أُثيرَت، وخصوصاً في وسائل التواصل الاجتماعي، وأوجدت ما عُرف، فيما بعد، بخطاب الكراهية، فإنّ المقالة تتحدّث عن قضية الأمازيغية وما للمسألة من معطياتٍ و دلالاتٍ يمكن أن تذوب، بل هي ذائبة، في سياق الهوية الوطنية الجامعة بثوابتها المعروفة، حيث روحها الإسلام ولسانها ثنائية العربية والأمازيغية.
وقد كتب صاحب هذه السطور، في مقالة سابقة في "العربي الجديد" أنّ مسألة الهوية مما ينبغي الابتعاد عنه لأنّها، بداهة، ممّا قد أجمع عليه الجزائريون، وما إثارتها، في هذه الفترة، بالذّات، إلا لعبة سياسية يرمي أصحابها منها إلى زرع بذور شقاقٍ لم يقدر الاستعمار الاستيطاني الفرنسي عليها. وبالتالي، القول الفصل فيها، أي الهوية، أنّها التنوع في إطار الوحدة في بلد مساحته شاسعة، وشهد موجات من الهجرات والتأثيرات، ولكنه بقي صامداً على ثالوثٍ مكوّن الشخصية القومية – الحضارية، الإسلام والعربية والأمازيغية، دونما زيغ عنها قيد أنملة، على مرّ العصور وفي كل الأمصار.
لعلّنا لا نحتاج للتذكير بأنّ في مجموعة الــ22 التي فجّرت الثّورة الجزائرية لعام 1954، كان
 هناك اثنان يمثّلان المنطقة بكاملها، كما لا حاجة للحديث عن بيان الثّورة أين كُتب، وطُبع ثم وُزِّع، بل لا حاجة، البتة، للحديث عن عميروش والصومام، ولا عن المنطقة الثّالثة، بل ولا عن قائد منطقة العاصمة، ولا، أيضاً، عن الشهيد ياسف عمر، ابن الـ12 عاماً، الذي رافق حسيبة وعلي إلى الرّفيق الأعلى شهداء في القصبة على أيدي المجرم سوستيل. وعندما نتحدّث عن المنطقة، فنحن نتحدّث عن الآلاف من المساجد والزّوايا التي ما فتئت تعلّم القرآن، وحفظت للبلاد هويتها العربية الإسلامية من مسخ الاستعمار الاستيطاني الفرنسي. عندما نتحدّث عن المنطقة، فنحن نتحدّث عن آيت أحمد، ابن باديس الصنهاجي، ديدوش ولالّا نسومر، كذلك فإننا نتحدّث، في ذات الوقت، عن معمري، فرّاد، جاووت، العنقة، العنقيس، فلّاق، ايدير، آيت منقلات، الحسناوي، مسعودي، علّاوة، خدّام، إيحياتن، نورة، شريفة ومعطوب، وكلّهم وطنيون إلى النّخاع عاشوا وما زالوا، لمن هو حيّ، على عهد الشهداء باقين، ولم يكن لهم من همّ إلّا استباق الآخرين إلى انتقاد أوضاع البلاد التي يعشقونها. ولهذا جرى إظهارهم بلبوس المناصرين لقضايا الفرقة بين الجزائريين أو المساس بالوحدة الوطنية، في حين أنهّم لم يقوموا إلا بمواصلة عمل التّحرير للجزائريين، الذي لم يكتمل، إلى الآن، بسبب الاستبداد الذي جثم (وما زال) على صدورنا، واستأثر بخيرات البلاد وظلم العباد.
ليس مقصد هذه المقالة الدّفاع عن المنطقة، بل توضيح ما قد يلبّسه بعضهم بالكذب والتّدليس واستدعاء أكاذيب وأراجيف من الزّمن الذي ولّى، لاستخدامها في تلطيخ منطقة برمّتها يتشرّف أبناؤها كلّهم بالانتماء إلى الجزائر، ويعملون على رفعة سمعته وطناً للجميع، أينما وُجدوا وحيثما عاشوا. لا حاجة لتكذيب ما يثيره بعضهم، لأنّ ديدن الشّريف الصمت، ترفّعاً، إذا كانت التّهمة ممّا لا يمكن السّير لتوضيح زيفها، لكونها لا تمتّ إلى الحقيقة بصلة. ولعلّ ما يكذّبها، حقيقة، بل حقائق، صلات الحميمية مع الوطن، ماضياً وحاضراً، بين أبناء المنطقة والجزائر عطاء، إًسهاما ودفاعاً عن قضايا الوطن.
لكن ما هو مهمّ أنّ استخدام العنصرية والانتقاص من قيمة المنطقة وأبنائها، بسبب مشكلات سياسية، أمر منحطّ في لعبة السياسة. ولكن ما لا يعلمه من بنى المشهد، وحاول الارتكاز عليه لوسم المنطقة وأبنائها بكلّ الأوصاف الدّنيئة وإرفاقها بالتّخوين، هو مخطئ، ولا يريد للجزائر أدنى خير، بل يريد الذّهاب بالبلاد إلى استقطاب جديد، يعيد مشهداً هو الأسوأ في الذاكرة الوطنية، منذ الاستقلال، ذاكرة العشرية السوداء ومآسيها البغيضة.
أما وقد سال في موضوع الرّاية الأمازيغية حبر كثير بشأنها، وكيلت، بسببها، تهم كثيرة لأبناء
المنطقة ممن يحملها أو يحتفظ بها شعاراً هوياتياً، سواء في عالم الحقيقة أو في العالم الافتراضي، على منصّات التّواصل الاجتماعي، بالخصوص، فربما أمكن الذهاب، في المسألة، إلى القول الفصل فيها، من دون مواربة، إلى أنّ ثمّة جملة من العناصر ذات الصلة بالهوية، التي لا تمسّ المسألة الوطنية في شيء، على غرار هذه الراية الأمازيغية التي يجب أن تُدرج ضمن إجراء التّرسيم الذي قامت به السّلطة للغة الأمازيغية، لتكون اللغة الرسمية الثانية في البلاد، إلى جانب العربية، والاحتفال ببداية العام الأمازيغي في 12 يناير/ كانون الثاني من كل عام، بصفته، منذ عام 2019، يوماً وطنياً. يؤدّي هذا، حتماً، إلى تجاوز قضية النّشطاء المسجونين، من ناحية، ورفع الحرج عن تلك الراية الهوياتية، من ناحية أخرى، إضافة إلى الرّفع من شأن العلم الوطني، ليكون العلم الوحيد الممثّل للبلاد، وهي مسألة مُجمع بشأنها بين كلّ الجزائريين.
على هذا، فانّ المراجعة القادمة للدّستور لا ينبغي لها الدّخول في إشكالية الهويّة للحديث بشأن تفاصيل مكوّناتها بل يكفي رسم معالم الشخصية القومية - الحضارية بما ذكرناه دونما الحاجة إلى إيراد جملة ما يشير إليها ذلك أن الدستور نص مرجعي الحاجة فيه لا تنصرف إلا لمهمات القضايا. ولعل بعضهم قد ينبري للقول إن عدم التفصيل يعني ترك بعض التفاصيل الخاصة بالهوية من دون شرح أو إشارة، ليكون الجواب عليها أن القانون المزمع إقراره ضد الكراهية والعنصرية كفيل بذلك شرحاً، تفضيلاً وإسهاباً في ما يمنع ويسمح به، والعقوبات اللائقة بتجاوزاتٍ تقع في إطار ذلك مما يُكيفُ قانوناً ليس إلا.
هناك، في هذا الإطار، مرجعية مُجمع عليها بين كلّ الجزائريين، بل تُعدّ، من ناحية القدسية، أعلى مرجعية لسياق الهوية الجامعة للجزائر، وهو بيان أوّل نوفمبر/ تشرين الثاني 1954 الذي كان بيان الشرارة الأولى للحرب التحريرية الكبرى، وما زال بالإجماع والقدسية نفسيهما، ولم يذكر فيها ذلك السياق، ليس لأنّ سياق البيان هو الإجماع على أن تلك المسألة الهوياتية ليست محلّ نقاش بين أبناء البلد الواحد، من حيث تنوعهم، بل محل النقاش، على الدوام، هو تعيين العدوّ وأولويات العمل للقضاء على الحالة الاستعمارية - الاستيطانية. بل لم يشر البيان إلا إلى مسألة واحدة، عندما تطرّق إلى الهدف من الثورة على فرنسا، وهي ببناء الدولة الجزائرية على أسس 
ديمقراطية، وفي سياق المبادئ الإسلامية، ذلك أنّ المسائل الأخرى ذات العلاقة بالسياق الهوياتي هي محلّ إجماع تام وكامل بين كلّ أبناء البلاد. بل نزيد الأمر وضوحاً بالإشارة إلى وثيقة أخرى، محلّ إجماع أيضاً، وهي وثيقة مؤتمر الصّومام المنظم عام 1955 بين قيادات الحرب التحريرية الكبرى، ولم تُطرح فيه مسائل لها صلة بالهوية، بل تطرّقت، فقط، إلى القضية الأولى القومية، وهي الحصول على الاستقلال التام واستعادة السيادة على كل القطر الجزائري.
من خلال ما تقدّم، تمام القول الفصل، في شأن الهوية، أن هناك سياقاً مجمعاً عليه، شكلاً ومضموناً، ولا يجب أن يكون محل طرح نقاش أو خلاف، بل يجب أن يُشار إلى قدسيته في الدستور، إلى جانب قدسية الثوابت الأخرى، على غرار العلم الوطني، بيان أول نوفمبر، مكانة الشهداء، الحرب التحريرية الكبرى، الحدود الوطنية والشخصيات الوطنية التاريخية من لدن عقبة بن نافع، وصولاً إلى عبد القادر الجزائري ومجموعة 22 التي فجرت الثورة، مصالي الحاج، ابن باديس، وغيرهما ممن يجب الاتفاق على أنهم آباء الجزائر الروحيون، وأنّ ما قاموا به يستحقّ أن يكونوا به بمثابة النبراس، وهم، للعلم، من كلّ مناطق البلاد، وتجمع بينهم، في الأساس، تلك المكوّنات المذكورة للسياق الهوياتي للجزائر التاريخية.